أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

هل يمكن أن توجد سياسة بلا حرية؟ رؤية حنة أرندت

هل يمكن أن توجد سياسة بلا حرية؟ رؤية حنة أرندت
 

    إذا كانت السياسة مشروطة بالتعددية والاختلاف، والتعددية لا يمكن أن تزدهر إلا ضمن مجال عمومي يضمن الحق في الاختلاف وحرية التعبير. ومن هذا المنطلق،  فبإمكاننا أن نعتبر الحرية المحور الأساسي الذي يربط بين السياسة والمجال العمومي والتعددية. في الفلسفة اليونانية، كانت الحرية شرطًا أساسيا لولوج المجال العمومي وممارسة الفعل السياسي، فالمجال العمومي لم يكن يعرف إلا الأحرار، على عكس المجال الخاص، الذي كان مركز للامساواة وممارسة القهر على الفئات التي كانت تخضع للسلطة المطلقة.

  لقد كانت السياسة على الدوام التربة الخصبة التي نمت وازدهرت فيها الحرية وتطورت عبر التاريخ. ففي أثينا، يكون المرء حرّاً ومواطناً وفاعلاً سياسياً، في تماه مطلق. حيث مثلت الحرية السياسية جوهر المواطنة وشرطاً أساسيا لممارسة الحياة العامة. على العكس من الحرية الفلسفية الداخلية، التي ترتبط بالذات والتأمل، فإن الحرية السياسية تشكل الأساس لأي نظام سياسي ذي معنى. كما تقول الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت: " لأن الإنسان بداية، الإنسان يستطيع أن يبدأ؛ أن تكون إنساناً وأن تكون حرّاً هما الشيء نفسه. فالله خلق الإنسان من أجل أن يُحْضِر داخل العالم قدرة البداية: الحرية".([1]) كما أن أرندت سعت إلى التمييز بين الحرية الفلسفية والحرية السياسية، فالفكر الفلسفي يربط الحرية بالإرادة، وحرية الاختيار والتفكير، فالاختلاف الموجود بينهما أي بين التصور الفلسفي والتصور السياسي للحرية؛ الأول تكون الحرية فردية، مرتبطة بسيادة الفرد على أفعاله؛ "هو يريد إذن هو حر". أما الحرية في التصور الثاني أي السياسي، فهي لا تقتصر على الشعور الداخلي، بل منفتحة على الآخرين. 

إذ تنتقل الحرية من شعور داخلي للذات، إلى فعل يكون فيه الكائن البشري فاعلاً، متحاوراً، متفاعلاً مع الآخرين، من الانعزال إلى الانكشاف، ومن التأمل الفردي إلى الممارسة العامة. ترى حنة أرندت أن السياسة هي ميدان الحرية، والفعل هو أداتها، لكن في الوقت ذاته، يمكن اعتبار الفعل والتأمل وجهين لعملة واحدة هي الحياة. تتكون الحياة من بعدين: حياة تأملية وأخرى نشطة. بحسب ارنت، الإنسان ينخرط في الحياة النشطة ولا يمكن أبدًا أن يتفاداها، على عكس التأمل الذي يظل خيارًا فرديًا. وفي هذا السياق، تعتبر أرندت أن السياسة لا ينبغي أن تكون ميدان المصالح والأهداف، بل مجال التعددية والتباين في الآراء، حيث يكون الرأي هو المقابل للحقيقة، لأن السياسة لا تعنى بالفرد وحده، بل تقوم على التنوع والتفاعل بين مختلف الفاعلين في المجال العمومي.

 لقد حركت محاكمة آيخمان تفكير آرنت، شكلت محاكمته لحظة فارقة في تفكيرها حول السياسة. قام آيخمان بارتكاب أبشع الجرائم باسم احترام القانون، متجاهلاً أي بعد أخلاقي أو إنساني، مما كشف عن مفارقة قاتلة. وهذا الأمر هو ضد حقيقة الفلسفة التي تحمل قيم إنسانية وتعلي من قيمة ومكانة الإنسان وطبعا هذا المأزق، تورط فيه فكر آرنت: " فهي من جهة تنتقد الفلسفة لأنها لا تهتم بالناس ( التعدد)، ومن جهة أخرى تريد من السياسة أن تهتم بكل الناس (بالإنسانية جمعاء)".([2]) هناك توتر بين القانون والأخلاق، السياسية والإنسانية، الفلسفة والممارسة العملية. تربط حنة أرندت الحرية بالفعل والقول، كما أنها تربط بين التعددية والحرية وأخيرًا المجال العمومي والحرية السياسية. حيث تقول أرندت: "ما هو حاسم بالنسبة لهذه الحرية السياسية هي أنها مرتبطة بفضاء ما".([3]) 

كما أن التعبير عن الآراء مكون ضروري للحرية السياسية، لأنه فيما سبق لم تكتف الأنظمة الشمولية عبر التاريخ بوضع حد لحرية التعبير عن الآراء، بل ذهبوا أبعد من ذلك حسب تعبير أرندت إلى نفي تلقائية الإنسان، أي محو قدرته على المبادرة والفعل في مختلف المجالات. انتقدت أرندت التصور الليبرالي، وشعاره المتمثل في "سياسة أقل...حرية أكثر" الذي يُفضي إلى اعتبار الحرية مجرد ظاهرة هامشية. أغلب الكتابات الفلسفية والسياسية تطرقت لمفهوم الحرية، إلا أنها عند القدماء (الحرية) ارتبطت بالإرادة، غير أن آرنت وهي تعالج قضية الحرية انطلقت من الفعل لا الإرادة، تجاوزت بذلك الرؤية الجوانية للحرية، تأثرت بالتراث الفلسفي الإغريقي وعبرت عن ذلك بقولها: " يعتبر الفرد في عزلته ليس حرًّا مطلقاً، وهو لا يمكن أن يصير حرًّا إلا إذا اخترق البوليس وتمكن من الدخول إليه والفعل فيه".([4]) تكشف هذه الرؤية عن ارتباط الحرية السياسية بالفعل والمشاركة العامة، مما يجعلها شرطاً أساسيً للديمقراطية والتعددية.

 اعتبرت حنة أرندت أن الحرية كانت تظهر في المجال العملي الواقعي إلا أن الفلسفة هي التي قامت بتحويلها لتصبح بذلك الحرية خاصية ذاتية. " قبل أن تكون الحرية صفة للفكر ’الذاتي‘ فهي واقعة تنكشف عبر المعيش اليومي, من خلال تبادلات الناس وتعاملاتهم اليومية. كانت الحرية في الزمن الإغريقي شكلا من التنظيم الجماعي الذي يعيش الناس في ظله خارج كل هيمنة أو تمييز بين الذات والوعي بالذات".([5])  بالتالي ترى بأن الحرية لم تكن في أصلها فكرة مجردة، بل كانت حقيقة ملموسة تظهر في المجال العملي والواقع المعيش. غير أن الفلسفة، جعلتها خاصية ذاتية أكثر من كونها تجربة جماعية. بهذا الطرح، تعيد أرندت الحرية إلى أصلها السياسي والاجتماعي، مؤكدة أن الحرية الحقيقية لا تتحقق في العزلة، بل من خلال الفعل والمشاركة في المجال العمومي. 

إن الحرية السياسية مع ارنت لا تُكتشف وتسبر أغوارها إلا  بوجود الآخرين، لهذا السبب، يعمد الطاغية إلى عزل رعاياه عن بعضهم البعض عبر نشر الخوف والريبة، حتى لا يدركوا أن الحرية قاسم مشترك يمكن أن يوحدهم ضد سلطته كما يعجل بزوال حكمه. يتطلب الحصول على الحرية وفق أرندت التحرر من ضرورات الحياة بل شرط أساسي للحرية، الإنسان منشغل بتوفير وتأمين حاجاته الأساسية من مسكن ومأكل وملبس، بمعنى  يصبح مجرد "حيوان عامل"، غارق في هموم البقاء. كذلك التخلص من كونه إنسان صانع؛ العمل اليدوي عند الإغريق أمر موكل للرق، فكل المهام الشاقة هي من اختصاص عمل الرق، مما يسمح للمواطنين الأحرار بالتفرغ لشؤون السياسية واتخاذ القرارات. يتفرغ الأثيني للنقاش والجدال وتبادل أطراف الحديث حول كل القضايا التي تهم المدينة في مكان عمومي حيث يجتمع المواطنون مثل" الأغورا" ينكشف الفاعل أمام الآخرين من خلال القول والكلام، لتتجلى الحرية في أبهى صورها، ولهذا، تؤكد أرندت على أن الإرادة مسألة باطنية، أما الحرية فهي تجل خارجي.

 لقد نجح الإغريق، وفقا لها، في خلق فضاء فيه الحرية كفنٍ راقٍ. بالإضافة إلى أن غاية قيام الدولة هو الأمن فإن الحرية هي الغاية الحقيقية لقيامها حيث يقول الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا Baruch Spinoza (1632 1677): " الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كي تقوم بوظائفها كاملة في آمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداماً حرًّا دون إشهارٍ لأسلحةِ الحقد أو الغضب أو الخداع وبحيث يتعاملون معا دون ظلم أو إجحاف فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة".([6]) رفضت حنة أرندت التراث خاصة ذلك الفكر الذي يعطي  للسياسة حق ممارسة أو استحواذ العنف، فقد نادت بالحرية في المجال السياسي: " لم تعرف ارندت الحرية إلا داخل مجال السياسة الذي هو مجال حضور الآخر".([7]) 

 رفضت مسألة التأمل النظري للحرية، فهي فعل نشيط. اهتمام ارنت بالفعل والحرية في المجال السياسي لم يأتِ من فراغ فنظراً لأن فيلسوفتنا الحائرة عاشت الأزمات عن قرب وعايشت ما سببته الأنظمة التوتاليتارية من تدمير ومجازر وإبادة جماعية. فالحرية عند ارنت هي المشاركة في صنع القرارات وليس بالمعنى الذي صاغته النظرية السياسية منذ توماس هوبز في اعتبار الحرية كما سبق الذكر التحرر من السياسة، وتحويل الحرية إلى شأن داخلي للإرادة. إن القدرة الإنسانية على توليد شيء غير متوقع، شيء جديد يعني القدرة على الفعل  وهو ما تسميه ارنت بالمعجزة، فأن يكون هناك أفراد مبدعين، لديهم حرية وقدرة على الفعل يعني أنه يمكن تأسيس واقع خاص بهم." الحرية والفعل السياسي عند آرنت وجهان لعملة واحدة، فالسياسة بحاجة ماسة في صيرورتها إلى هذا التحرر والفعل المتجدد وكذلك الفعل الحر يحتاج إلى خلق سياسي...  يحتاج إلى  مبادرات خلاّقة، تتحقق بالاشتراك والتفاعل والتداول الجماعي داخل المجال السياسي".([8]) 

طبعا رهان أرندت هو القضاء على العنف وعلى الأنظمة التوتاليتارية. فقد استوعبت جيداً خطر الأنظمة الشمولية المتمثلة بشكل خاص في التجربة النازية والستالينية وما سببته من تدمير للوجود المشترك. لقد استحوذ التفكير السياسي على أرندت وابتعدت عن ما هو تأملي، تجريدي، ميتافيزيقي، وقامت بإرجاع مجموعة من المفاهيم إلى أصلها الذي هو المجال السياسي. لذلك فكتابات ارنت هي حاجة سياسية لمواجهة أخطار العنف، فالحرية ناقشتها ارنت بعيداً عن المفاهيم المرتبطة بالتفكير الفلسفي واستبدالها بمفاهيم أكثر حيوية مثل السياسة، السلطة، الفعل، الفضاء العمومي.

 أرنت معجبة بالتجربة اليونانية فيما يخص الحرية السياسية، لأن اليونان ربطوا الحرية بقدرة الفرد على الفعل، نظراً لأن اليوناني كان في حلبة الحياة السياسية، حاضراً في الميدان. لقد انسحب الفلاسفة من المجال العمومي وترجع ارنت هذا الانسحاب إلى لحظة إعدام سقراط، حيث شكلت هذه الحادثة قطيعة رمزية بين الفلسفة والسياسة. فقد دفع سقراط حياته ثمنًا لممارسة الفكر النقدي في قلب المدينة، ما جعل أفلاطون ينسحب من الحياة العامة. تجعل ارنت السياسة مرادفة للحرية، وهي تهدف من هذا التعريف إلى إعادة الاعتبار للسياسة بعد الذي طالها من تبخيس وعداء، حيث وصمت بأنها مصدر كافة الشرور والآفات التي طالت الوجود البشري، خاصة مع صعود الأنظمة التوتاليتارية التي حولت السياسة إلى أداة للقمع بدلاً من أن تكون فضاءً للحوار والتعددية. 

لقد سحقت الأنظمة التوتاليتارية إنسانية الإنسان مستعينة بآلة دعائية ضخمة "البروباغندا" وإرهاب لا حدود له. وتحويل أفراد المجتمع إلى قوالب جاهزة، فاقدين لأي تفرد أو استقلالية. وممارسة العنف السياسي من أجل تحقيق مآرب سياسية وهي ليست من السياسية في شيء، وإنما تستهدف القضاء على التعددية وإخماد أي صوت مخالف.  وبالتالي انتقدت ارنت هذا التصور الذي يفصل بين الحرية والسياسة، في حين ان الفكر السياسي في العصور القديمة كان يجمع بينهما. لقد كان " طموح آرندت هو وضع تصور للسياسة يتفكر مصالح الناس (التعدد) ويُحافظ في الوقت نفسه على الأرض ( الطرح الإيكولوجي) ويحقق حب العالم بما هو قيمة أخلاقية وسياسية".([9]) بهذه الرؤية، سعت أرندت إلى استعادة السياسة كفضاء مشترك للوجود الإنساني، حيث يكون الأفراد قادرين على التعبير عن آرائهم والمشاركة في بناء المصير المشترك، بدلاً من أن يكونوا مجرد أدوات في يد السلطة.



([1])الفعل السياسي  بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. علي عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2013, ص 563ـ 562.  

([2])مليكة بد دودة, فلسفة السياسة عند حنّة أرندت, دار الأمان, الرباط, ط1, 2015, ص 160.

([3])حنة أرندت, ما السياسة؟, ترجمة وتحقيق, الدكتور زهير الخويلدي, أ. سلمى بالحاج مبروك, دار الأمان الرباط, ص 38.

([4])حنة أرندت, ما السياسة؟, ترجمة وتحقيق, الدكتور زهير الخويلدي, أ. سلمى بالحاج مبروك, دار الأمان الرباط, ص 95.

([5])الفعل السياسي  بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. علي عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2013, ص 598.

([6])اسبينوزا, رسالة في اللاهوت والسياسة, ترجمة وتقديم: د. حسن حنفي, مراجعة, د. فؤاد زكريا, دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع, ط1, 2005, بيروت, ص437.

([7]) نبيل فازيو, الفعل, والصفح, وأزمة عالم متصحر, مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث 6.

 الفعل بوصفه ثورة, ص 342.([8])

([9])مليكة بد دودة, فلسفة السياسة عند حنّة أرندت, دار الأمان, الرباط, ط1, 2015, ص 160.

سعيدة مهير
سعيدة مهير