إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية، أصبح مفهوم
الشر محط اهتمام فلسفي وأخلاقي واسع، إذ بات هذا المفهوم ضروريًا لفهم
الفظائع التي شهدها العالم، هذا الأخير الذي ترجع له مختلف الأهوال من ذلك على
سبيل المثال لا الحصر: الإبادة الجماعية، والهجمات الإرهابية، وأعمال القتل
والتعذيب والحرق. فهذه الجرائم لا يمكن اختزالها في مجرد أفعال أو التعبير عنها "بالخاطئة"
أو "السيئة"، بل تتطلب مفهومًا أعمق يعبر عن وحشيتها وثقلها الأخلاقي.
لذلك يستخدم مفهوم الشر للتعبير عن ثقل تلك
الأفعال. من خلال مفهوم الشر يتم تقييم السلوك الإنساني، حيث يرتبط بعلاقة جدلية
مع الخير، فكلاهما نقيضان يحددان ملامح التجربة البشرية ومعاييرها الأخلاقية.
يعتبر مفهوم الشر
فضفاض نوعا ما، لأنه يشير إلى كل سلوك ينتهك إنسانية الإنسان ويلحق الأذى
بالآخرين. وتُعرف الفيلسوفة الأمريكية كلوديا كاردClaudia Card (1940 2015)، "
الشر" بأنه ذو ضرر جسيم لا يمكن تحمله، مما ينتج عنه أخطاء إنسانية لا
تُغتفر. هذا التعريف رغم بساطته، إلا أنه شامل وواضح في فهم جوهر الشر. وعلى عكس ما
ذهب إليه توماس هوبز، الذي اعتبر الإنسان شريرًا بطبعه، ترى كارد أن الشر ليس سمة
فطرية، بل هو نتاج اجتماعي مكتسب، تنشئه الظروف والتجارب الإنسانية.
ترى الفيلسوفة الأمريكية كلوديا كارد أن الإنسان يولد حرّاً، وبعد ذلك يختار، بكل إرادته، بأن يكون فعله خيرًا أو شريرًا، وذلك وفقًا للأوضاع والظروف والبيئة التي يعيش فيها. كما أنها رأت بأن الشر يتصف بمجموعة من الصفات أو السمات الأساسية، أبرزها: أولاً، اعتبرته خطأ لا يُغتفر؛ ثانيًا، كونه ضررًا جسيمًا لا يمكن تحمله، وهو فعل قصدي واضح؛ وثالثًا، كونه فعلاً يستوجب المسؤولية. وبذلك، تتلاقى رؤية كلوديا كارد مع الفيلسوفة حنّة أرندت، حيث تؤكدان أن الشر ليس مجرد فعل آلي أو سلوك غير واعٍ، بل يكمن جوهره في إدراك الفاعل لحجم الأذى الذي يسببه. فالشرير الحقيقي، وفق هذا التصور، هو من يرتكب أفعالاً مدمرة عن وعي وإدراك، وليس فقط بدافع الجهل أو الامتثال الأعمى. ربطت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت مفهوم الشر السياسي بالأنظمة الشمولية، حيث لم يعد الشر مجرد قضية أخلاقية أو ميتافيزيقية، بل أصبح مرتبطاً بالبُنى السياسية التي تفرضه وتبرره.
وفقاً لأرندت، فإن الأنظمة الكليانية هي المسؤولة عن خلق أفراد عاجزين عن التفكير النقدي وهي التي جعلت الفرد
قاصراً، مما يجعل منهم أيضا أدوات طيعة في تنفيذ أوامر السلطة دون مساءلة. وترى حنة أرندت أن الشر لا ينبع من إرادة الفرد وحده،
بل هو نتاج منظومة سياسية تُحكم السيطرة على العقول عبر مؤسساتها الإعلاميةوحملتها الدعائية، فتجعل الأفراد مجرد قطيع ينفذ إرادة القائد الزعيم دون تردد، مما يؤدي إلى
وقوع جرائم مروعة تُرتكب بدم بارد تحت غطاء الطاعة والانضباط.
وصفت
حنة أرندت الشر "بالتافه" لأنه، في نظرها، ينشأ في غياب الضمير والإدراك
الحقيقي لعواقب الأفعال. الفرد ليس على دراية بما يحدث ولا يتحمل الإنسان فيه
المسؤولية مثل المجازر التي قام بها ايخمان وغيره، الذين كانوا تابعين
للبيروقراطية التوتاليتارية، لا يُمنحون فرصة للتفكير النقدي في أفعالهم وأن يحسوا
بإنسانيتهم الغائبة. يرى إيمانويل كانط أن الشر يعني ارتكاب أفعال تضاد القانون
الأخلاقي، إلا أن الأنظمة الكليانية قلبت هذا المفهوم رأسًا على عقب، إذ لم يعد
الشر هو العصيان، بل أصبح يتمثل في الطاعة العمياء وتنفيذ القوانين دون مساءلة،
حتى لو كانت هذه القوانين تشرعن الجرائم والانتهاكات بحق الإنسانية.
يعد أدولف ايخمان Adolf Eichmann ( 1906 1962) وهو ضابط في القوات الألمانية، قام بالترتيبات اللوجستية بصفته رئيس جهاز الشرطة السرية، أحد أبرز رموز الشر في التاريخ الحديث. كان آيخمان من بين الإداريين الذين أشرفوا على تنظيم معسكرات الاعتقال وإبادة المدنيين وهو ما عرف أنداك بسياسة "الحل النهائي"؛ وهي السياسة النازية التي استهدفت إبادة الملايين خلال الحرب العالمية الثانية. فقد كان مجرد أداة لتنفيذ أوامر الزعيم ليصبح بذلك الشر تافهاً، كانت حنة آرنت حاضرة في محاكمة أدولف ايخمان سنة 1961، بصفتها مراسلة لجريدة نيويورك ومن خلالها صاغت مفهومها الشهير " تفاهة الشر".
حظيت محاكمته باهتمام عالمي، لأنه النازي الذي شارك في "الهولوكست"، لم يكن آيخمان، في نظر حنة أرندت شخصاً شريرًا بالمعنى التقليدي، بل كان موظفًا
بيروقراطيًا، لا يشعر بالفظاعة التي قام بها ولا وعي مأساتها. كان مجرد أداة للسلطة
التوتاليتارية؛ ينفذ القرارات الإدارية ويطيع طاعة عمياء، بل أثناء التحقيق معه صرح
بأنه لو طُلب منه إرسال والده إلى الإعدام، لفعل ذلك دون تردد، إذ كان يرى نفسه منفذًا إداريًا فقط، لا مسؤولاً عن العواقب
الأخلاقية. هذه النظرة المروعة للعنف المنظم تسلط الضوء على كيف يمكن للطاعة
العمياء أن تحوّل الأفراد العاديين إلى أدوات في آلة الدمار الشامل، وهو درس
تاريخي لا يزال يحمل دلالات عميقة حتى اليوم.
أُحيل أدولف ايخمان إلى المحكمة عام 1961، وعدد
التهم الموجه له فهي خمسة عشر تهمة، تتعلق بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، ومع ذلك، فقد أصر على المطالبة ببراءته. كما أن فريق الدفاع
استخدم حجة مثيرة للجدل، حيث ادعى أن آيخمان كان جزء من المنظومة القضائية النازية
والتهم التي وجهت له لم تكن جرائم بل هي إجراءات دولة. ووجد نفسه مجبراً على تنفيذ
الأوامر، كما أن أدولف أشار إلى أنه لم يكن متورطا في مقتل اليهود، مُدعيا أنه لم
يقتل أي شخص، سواء كانوا يهوداً أو غير يهود. هذه التصريحات تُبرز كيف يمكن لبعض
الأفراد استخدام القوانين كغطاء لأفعالهم الوحشية، مما يعكس " تفاهة
الشر" التي تتجلى في الامتثال الأعمى للأوامر. هذه القضية تثير تساؤلات عميقة
حول المسؤولية الفردية في الأنظمة التوتاليتارية، وكيف يمكن للمواطنين أن يتجاهلوا
إنسانيتهم في سبيل الطاعة للسلطة.
لم يكن آيخمان مجنوناً كما رُوّج عنه، فقد
انتشرت مزاعم تصفه بالمهووس بالقتل وذو شخصية سادية، لكن المدعي العام لم يصدق
ذلك. في دفاعه، صرح ايخمان بأنه شخص غير متدين، فهو من الذين قطعوا صلتهم بالمسيحية،
كان يعترف بأنه لا يجيد سوى "اللغة الإدارية"، ما يكشف عن قصور واضح في تفكيره،
لأنه كان يعجز عن التعبير ويكرر نفس الكلمات مرارًا. ومع ذلك، كانت مساهمته المباشرة
في "الحل النهائي" ( المصطلح السري للإبادة الجماعية) هي التي قادته في
النهاية إلى المحاكمة.
كان
ايخمان يرى نفسه يتصرف تصرف المواطن النموذجي،
الذي يحترم القانون وينفذ الأوامر دون اعتراض، وهو ما صرح به أمام الشرطة وأثناء محاكمته.
ضاع في غياهب البيروقراطية، مفتخرًا بكون لديه مهارات التنظيم وقدرته على
تنسيق عمليات الترحيل والجلاء بدقة. متمسكا بفكرة أنه، من خلال إجبار اليهود على
الرحيل، ساهم في "إنقاذ" الآلاف منهم، متجاهلاً أنه يطيع الأوامر طاعة الجثة. كان يرى أنه التزم
طوال حياته بمبادئ كانط، وخاصة ما يتعلق بمفهوم الواجب، لكن على طريقته الخاصة،
التي قادته نحو تنفيذ واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ.