
بدأ الاهتمام بالشرق في القرن السادس عشر الميلادي، حيث كان هذا الاهتمام جماعيًا من قبل الغرب. يُعتبر الاستشراق نوعًا من المعارف التي تتبع أساليب ومناهج خاصة في الفحص والتحليل والتفسير. فهو يمثل مدرسة معرفية مستقلة، وله جانب إيجابي وآخر سلبي. أما الجوانب الإيجابية فتتمثل في حفظ مجموعة من المخطوطات النادرة من الضياع، حيث تم تنظيمها وتصنيفها وترجمتها إلى عدة لغات.
لقد قام المستشرق الغربي
بإنشاء عدد من المعاجم الخاصة بالتراث الشرقي، هذا الاهتمام الغربي بالشرق وصل إلى
درجة أصبح فيها الاستشراق هو صلة وصل بين الإنسان الشرقي وتراثه. "وفي
الحق أن كلا من الثناء المطلق والتحامل المطلق يتنافى مع الحقيقة التاريخية التي
سجلها هؤلاء المستشرقون فيما قاموا به من أعمال، وما تطرقوا إليه من أبحاث، ونحن
من قوم يأمرهم دينهم بالعدل حتى مع أعدائهم".[1]
يُعَرَّفُ الاستشراق بأنه دراسة أكاديميّة يقوم بها الغربيُّون، فهو اهتمام أكاديمي يختصُّ في مجالات متعددة تخص الشرق، وكل ما له علاقة بالدين الإسلامي وبالمسلمين أنفسهم. تناول الاستشراق العقيدة والشريعة وأيضا الثقافة، التاريخ، والحضارة العربية الإسلامية بصفة عامة. تعلم المستشرقون لغات الشرق، ألفوا عدة كتب عن الإسلام، ومنهم من أنصف ومنهم من لم يفعل وهم الأغلبية. بالإضافة إلى تطرقهم إلى مسألة الأديان، فقد اهتموا أيضًا بالآداب والفلسفة والتاريخ والفنون وأيضا القوانين الاجتماعية.
إذن يعد الاستشراق مدرسة فكرية، لأنه تم إنشاء مؤسسات لهذا الغرض من قبل الدول الأوروبية، أي التعرف على الشرق بكل تفاصيله، حيث لا يمكن أن يختزل الاستشراق في التاريخ أو الجغرافيا؛ بل هو الزمان والمكان والإنسان والثقافة. "الحقيقة أن أغلب الدارسين يرى أن مفهوم كلمة ’الشرق‘ لا يخضع لعامل جغرافي أو إقليمي، فالحضارة هي الأساس المضمون والمدلول. فللشرق حضارته ذات الطابع المتميز الخاص، مما يختلف كثيرًا عن ألوان الحضارات الأخرى".[2] طبعًا، هذا العمل أي دراسة الشرق عملية امتدت لقرون، قد يبدو من الوهلة الأولى أن الاستشراق حديث الظهور، ولكن هذا التراكم المعرفي والأفكار حول الشرق قديمة، فقد كان الشرق مجهولاً في الفكر الغربي.
إدوارد سعيد ونقد الاستشراق
الذي يتخصص في الدراسات الشرقية، لا بد أن يستوفي مجموعة من الشروط، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، أن ينتمي المستشرق إلى الغرب، أيضًا لكي يكون المستشرق مستشرقًا بالإضافة إلى غربيته ينبغي أن يكون أيضًا ملمًّا باللغات والثقافات الشرقية، كاللغة العربية، الفارسية... يعني أن تكون له خلفية أكاديمية معمقة تسمح له بدراسة الشرق من منظور ديني، لغوي، ثقافي.
كذلك يمكن للمستشرق أن يختص بمنطقة جغرافية معينة، مثل العالم العربي أو الهند أو الشرق الأوسط بشكل عام. نفس الأمر يسري أيضًا على الأديان الشرقية، حيث يختص المستشرق بدراسة دين معين، إما الإسلام أو البوذية أو الهندوسية، وغيرها من الأديان التي توجد في الشرق. يُعَرّف الناقد والمفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (الذي يعد من القلائل، بل يمكن اعتباره الوحيد الذي واجه الغرب بلغتهم وأيضا بمناهجهم)، الاستشراق والمستشرق بما يلي:
"أما أيسر التعريفات المقبولة للاستشراق فهو أنه مبحث أكاديمي، بل إن هذا
المفهوم لا يزال مستخدمًا في عدد من المؤسسات الأكاديمية، فالمستشرق هو كل من يعمل
بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث في موضوعات خاصة بالشرق، سواء كان ذلك في
مجال الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، أو علم الاجتماع، أو التاريخ، أو فقه اللغة،
وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة، والاستشراق إذاً هو وصف لهذا
العمل".[3]
تتطلب هذه الأمور مناهج بحثية غربية كالمناهج التاريخية أو الفيلولوجية. تشمل البحوث الأكاديمية التي تُنجز عن الشرق أيضًا عملية الترجمة وتحليل النصوص. علاوة على دراسة الفلسفات الشرقية وعقائدها وتصوفها، وغيرها من المجالات المعرفية؛ لأن المستشرق ليس فقط مجرد مهتم أو زائر لهذا الشرق، بل هو دارس أكاديمي ومتخصص علمي عليه التسلح بمجموعة من الأدوات البحثية الجادة، مع تقديم دراسات موضوعية حول الثقافة الشرقية. إلا أن كل ذلك مشكوك في أمره.
يُنظر إلى الدراسات
الشرقية بأنها دُعمت وتُدعم، السياسات
الاستعمارية حيث كان الغرض هو فهم
الإنسان الشرقي من أجل السيطرة عليه واستغلاله. لذلك تم توجيه عدة انتقادات للاستشراق؛ حيث لوحظت فجوات واختلالات وتحيزات في
الدراسات الغربية للشرق، مما جعل المفكر والناقد الفلسطيني الأمريكي، إدوارد سعيد
يعرف الاستشراق بما يلي: "بأنه أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة صياغته وتشكيله وممارسة السلطة
عليه".
تعد البداية الأولى
لاهتمام الغربي بالشرق هي انتشار الإسلام بشكل سريع، وهو الأمر الذي لفت أنظار
رجال الدين الغربيين، فقرروا الاهتمام بالإسلام ليس من باب اعتناقه بل من أجل
حماية دياناتهم. فأخذوا خطوة ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، كما أن
الحروب الصليبية هي الأخرى دفعت المستشرقين إلى الاهتمام بالإسلام.
"وكان يومئذ الخصم للمسيحية في نظر الغربيين دين لا يستحق الانتشار، وأن
المسلمين قوم همج لصوص وسفاكو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية، ويبعدهم عن
كل سمو روحي وخلقي". [4] وبالتالي كانت المرحلة الأولى لنشأة الاستشراق هي هذا الصراع الذي كان بين
الغرب النصراني والشرق الإسلامي. تبعًا لذلك فالاستشراق وليد هذا الصراع والصدام
بين هاتين الثقافيتين.
غير معروف المستشرق الأول
الذي عني بمقاربة الشرق، نظرًا لأن عددًا من الرهبان الغربيين اتجهوا للأندلس في
فترة تقدمها وازدهارها وعظمتها ومجدها، حيث تعلموا في مدارس الأندلس، بالإضافة إلى
ترجمة القرآن كما سبق الذكر وترجموا الكتب العربية الإسلامية بصفة عامة إلى لغاتهم.
كما أن هؤلاء قد تتلمذوا على يد عدد من العلماء المسلمين في شتى المجالات كالطب
والفلسفة والفلك... وبعد عودتهم إلى بلدانهم قاموا بنشر الثقافة العربية وكتبها.
الاستشراق والاستعمار
بدأت عملية استعمار
العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر، حيث تمت السيطرة على ماضيه وحاضره
ومستقبله، والاستيلاء على ممتلكاته. اشتروا المخطوطات العربية الإسلامية بثمن بخص
من أشخاص جهلة، بل تم أيضًا سرقتها بدون مقابل في ظل الحروب وحالة الفوضى التي كان
يعيشها الإنسان الشرقي من طرف الغربي. حتى أنها الآن تحتفظ بها المكتبات الأوروبية
بدلًا من المكتبات العربية.
إن الاستشراق كيان قائم
بذاته له وجود نظري وعملي، حيث يعد النافذة التي من خلالها يرى الغربي صورة الشرق.
هيمنت الأفكار الأوروبية عنه، حتى أن هذه الصورة عن الشرق تُدرس في المعاهد
العليا، ويتم عرضها في المتاحف، بل يتم عرضها في جميع المجالات دون اعتراض من
الشرق نفسه عن هذه الأفكار والصورة التي تشكلت عنه. لأن الأفكار التي تكونت عن
الشرق نابعة من التفوق الأوروبي، من الإمبريالية، العنصرية... حيث لم يتم التمييز
بين المعارف البحثية والمعارف السياسية.
يقول الناقد الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد: "الفكرة التي أطرحها هي أن الاهتمام الأوروبي، ثم الاهتمام الأمريكي، بالشرق كان اهتمامًا سياسيًا".5 وبالتالي، حسب إدوارد سعيد فإن تأسيس المعرفة الأوروبية بالشرق على القوة في الغالب سيتم خلق أفكار عن الشرق والشرقي وعالمه كما يريدون هم وليس كما هو موجود. لقد نظر الغربي للشرق على أنه بحاجة لمن يلعب دور الوصي عليه (حتى ماركس كان له نفس الرأي)، وبالتالي سعى الغربي إلى فرض هيمنته وسيطرته على الآخر، على الشرق والإنسان الشرقي.
في الختام، كان من الممكن أن يلعب الاستشراق دور إيجابي في خلق تعايش وتسامح بين الحضارتين، إلا أنه كان ذا مآرب أخرى. حيث كوّن نظرة مشوهة للإنسان الشرقي وكان أداة لدعم الاستعمار والسيطرة الثقافية. على العموم فهو لم يكن مجرد دراسة أكاديمية بل كان له الفضل في حفظ التراث الشرقي من الضياع. في ضوء ذلك يبقى السؤال عن دور الاستشراق في تعزيز التعايش بين الثقافات أم سيظل وسيلة لتحقيق أهداف سياسية وغزو فكري.
المراجع