أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

احتكار الدولة للعنف: مشروعية أم قمع؟

فخاصية الدولة الحديثة هي أنها لا تُعرّف فقط بغاياتها، بل بالنظر إلى وسائلها، وأهم هذه الوسائل هو العنف الشرعي، حسب ماكس فيبر العنف الذي تمارسه الدولة

 يؤكد الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن التعريف الذي يمكن إعطاؤه للدولة الحديثة على المستوى السوسيولوجي لن يكون إلا عبر وسيلتها الأساسية المميزة، وهي وسيلة خاصة بأي تجمع سياسي: إنه ’العنف‘ ويستشهد على ذلك بقولة تروتسكي : " إن كل دولة تقوم على العنف". حيث يعتبر أنه بزوال وغياب العنف سنسقط في الفوضى. يقول في كتابه رجل العلم والسياسة: " والعنف بالطبع ليس الوسيلة الطبيعية أو الوحيدة للدولة ولا مجال للنقاش في ذلك  بل هو وسيلتها النوعية، أما الآن تحديداً فإن العلاقة بين الدولة والعنف علاقة حميمة بشكل خاص"[1]. وبالتالي يشير ماكس فيبر إلى أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة للدولة، بل وسيلتها النوعية التي تميزها عن غيرها من المؤسسات.

مشدداً على أن العلاقة بين الدولة والعنف باتت وثيقة بشكل خاص في العصر الحديث. يعتبر ماكس فيبر أن العنف الذي تمارسه الدولة هو عنف مشروع، ولا يحق للأفراد استعمال العنف ما لم تسمح لهم الدولة بذلك. لأنها الوحيدة التي يحق لها احتكار العنف، فالمسيطرون على المستوى السياسي، يقومون بتعزيز سلطتهم وضمان استمراريتهم في الحكم بواسطة العنف، كما يسعون من خلاله إلى توجيه سلوك الأفراد نحو الطاعة والامتثال للقوانين.

تعد القوة أحد العناصر الأساسية في الحياة السياسية، حيث يعتمد عليها النظام السياسي بغية تحقيق أهدافه العامة أو للتمتع بمشاعر الهيبة النابعة من القوة. لأن القوة في الحياة السياسية عنصر ضروري لاستمرار الدولة؛ فبدونها تحل الفوضى واللانظام وينعدم الاستقرار. لذلك لا بد من الامتثال وطاعة الحاكم أو السلطة من أجل الحفاظ على النظام. مما يؤكد أن الدولة الحديثة تتميز باحتكارها للممارسة الشرعية للقوة الفيزيائية، بالإضافة إلى ذلك، تلعب البيروقراطية دورًا محوريًا في تنظيم شؤون الدولة. فقد كان يرى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن الجهاز الإداري يساهم كذلك في تعزيز طاعة وامتثال المواطنين للسلطة الحاكمة. إذن فخاصية الدولة الحديثة هي أنها لا تُعرّف فقط بغاياتها، بل بالنظر إلى وسائلها، وأهم هذه الوسائل هو العنف الشرعي، الذي يعتبر ضرورة لا غنى عنها لتحقيق الاستقرار وضمان تنفيذ السياسات العامة.

يقبل الأفراد العنف الشرعي الذي تمارسه الدولة، لأنه يستند على قوة الحق وليس حق القوة. فهو عنف قانوني ليس تعسفيًا! مما يمنحها شرعية مطلقة في ممارسته وسحبه من الأفراد والجماعات. وقد حدد ماكس فيبر ثلاثة مصادر أساسية لشرعية السلطة، لأنها تكون مستمدة من القانون أو التقاليد، أو الإلهام. فالسلطة القانونية: وهي السلطة القائمة على قواعد ومعايير موضوعية غير شخصية، حيث يلتزم الأفراد بالقوانين والمؤسسات الرسمية. أما السلطة التقليدية: تنبع شرعيتها من التقاليد والعادات الراسخة، ويكون الخضوع لها، والامتثال للقائد استنادًا إلى الموروث الثقافي بدلاً من القوانين المكتوبة.

 أما السلطة الكاريزمية: وهي السلطة التي يكون فيها الولاء لزعيم أو قائد، لشخصية قيادية تتمتع بصفات بطولية، مُلهمة، تفرض الطاعة والولاء بفضل تأثيرها القوي على الجماهير. حيث يقول فيبر: "فحامل الكاريزما يغتنم المهمة التي يراها مناسبة له، ويطالب بالطاعة والولاء بحكم رسالته ولن يصل إلى مرماه إلا بقدر ما يكون النجاح حليفه، فإن لم يعترف أولئك الذين يشعر أنه مبعوث إليهم برسالته، يسقط إذن مطلبه أما إذا اعترفوا به فإنه يصير سيدهم طالما عرف هو كيف يحافظ على اعترافهم به"[2]. 

إلا أنه لا يمكن اعتبار حسب فيبر بأن تكون السلطة الكاريزمية ديمقراطية لأنه لا توجد ضمانة على أن هذا الزعيم قادر على تلبية وتحقيق مصالح المجتمع، فالسلطة الكاريزمية تظهر في الوقت الذي لا يعرف فيه المجتمع استقراراً. إذن نستنتج أن فيبر يعتبر العنف من عناصر الدولة الحديثة، على اعتبار أن العنف المشروع يحقق الخير العام، ويقضي على اللانظام والفوضى. فالدولة حسب فيبر نشأتها مرتبطة بالعنف واختفائه هو اختفاء لها. " يمكن القول من هنا بأن القوة تُعد أمراً ضرورياً لتحقيق التنسيق بين الأفراد؛ وبعبارة أخرى، هي ضرورية لأي هيكل تنظيمي وإنساني شريطة أن يكون الأفراد المحكومون على اقتناع بها"[3]

تنتقد الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت تصور ماكس فيبر للدولة، التي تقوم على احتكار العنف المشروع كوسيلة أساسية لممارسة السلطة. فعلى عكس فيبر، ترى أرندت أن معنى السياسة هو الحرية، وأن الدولة هي الإطار الذي يحمي هذه الحرية ويصون كيانها. لذلك، لا يمكن قبول أو مسايرة الطرح الذي يربط بين العنف والسلطة السياسية، ويجمعهما في بوثقة واحدة، إذ إن العنف ليس جزءًا أصيلا من السياسة، بل يظهر عندما تغيب السياسة أو عندما تصبح السلطة مهددة. بهذا الطرح، تميز أرندت بين السلطة والعنف، حيث ترى أن السلطة الحقيقية تستند إلى الشرعية والتوافق الاجتماعي، بينما العنف يمثل انهيارًا للنظام السياسي، ويستخدم فقط عندما تفشل السلطة في تحقيق غاياتها عبر الحوار والمؤسسات.


 فيليب هانس، حنة أرندت: السياسية والتاريخ والمواطنة، ترجمة: خالد عايد أبو هديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، بيروت، 2018، ص 30.[1]

 ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع, ترجمة: محمد فضل الله العميري، المجلد الرابع (السيادة), ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2015، ص 500. [2]

الفعل السياسي بوصفه ثورة، دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّة آرنت، مجموعة مؤلفين، إشراف وتنسيق: د.علي عبود المحمداوي، تقديم: د. محمد شوقي الزين، دار الفارابي, بيروت، ط1، 2013, ص 227.[3]


سعيدة مهير
سعيدة مهير