أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

هوبز والحكم المطلق: استبداد أم ضرورة؟

هوبز والحكم المطلق: استبداد أم ضرورة؟
 

  كان توماس هوبز فيلسوفاً دقيقاً وبارزًا في الفلسفة السياسية، تجسيدًا لروح عصره في القرن السابع عشر، وهو الذي عاش تقريبا قرن ( إحدى وتسعين سنة)، تشبع بالعلم وبالتحولات الفكرية التي شهدها ذلك العصر." لقد كان هوبز في القرن السابع عشر ’بعبع‘ عصره، فقد أطلق عليه معاصروه اسم ’وحش مالسبري‘ ( وهي مسقط رأسه) ووصفه رجال الدين بأنه (زعيم الملاحدة ورسول الكفر) وهو مصدر إزعاج في البلاد لا حد له... ومن هنا فقد حرمت كتبه ولعنت في الكنائس، وأحرقت علناً، حتى أن جامعة أكسفورد حرّمت قراءة أو تداول مؤلفاته..."([1])

   يظهر أنه كان يسعى إلى تحقيق نظام سياسي مستقر وإحلال السلم الاجتماعي، غير أن هذا السعي لم يكن خاليًا من المعارك الفكرية. يعتبر كتاب " اللفياتان" واحدًا من أعظم أعماله، فقد دافع فيه بشدة عن مسألة الحكم المطلق باعتباره الوسيلة الأنجع لتحقيق السلم ومن أجل الخروج من حالة الطبيعة، التي امتازت بالحرب والفوضى والصراع أي حرب الكل ضد الكل، على الأفراد الاتفاق مع بعضهم البعض وإبرامِ عقد اجتماعي ينظم حياتهم ويضع حدا لحالة الفوضى المستمرة.

   يرى هوبز أن المجتمع ثمرة اصطناعية متفق عليها، إلا أن بنود هذا العقد ليس الملك طرفا مباشراً فيه، بل يتم اختياره من قبل الأفراد ليكون على رأس السلطة. وفقًا لهوبز، يتنازل الأفراد عن بعض حقوقهم لصالح الدولة مقابل ضمان الحماية وتحقيق الأمن. لهذا السبب، ينتقد هوبز فكرة  فصل السلطات، لأنه يدافع وبقوة عن السيادة المطلقة، معتقداً أن تحقيق الخير للشعب لا ينفصل عن تحقيق مصلحة الحاكم. كما يؤكد أن الطبيعة منحت البشر قدرًا متساويًا من القدرات الجسدية والفكرية، مما يجعلهم جميعًا عرضة للصراع في غياب سلطة قوية تحكمهم.

في حالة الطبيعة، يعيش الناس فيها بدون آمان، حيث تغيب القوانين والمؤسسات التي تضمن الاستقرار. يقول توماس هوبز في الفصل المعنون في حالة الجنس البشري الطبيعية، فيما يتعلق بسعادته وبؤسه من كتابه اللفياتان: " ...ولا فنون ولا آداب، ولا مجتمع والأسوأ من هذا كله وجود خوف متواصل وخطر وموت عنيف، وكون حياة الإنسان وحيدة بائسة بغيضة قاسية وقصيرة".([2]) وفقًا لهوبز، في حالة الطبيعة لا توجد الخطيئة أو الجريمة، كما لا يمكن الحديث عن الصواب والخطأ أو الظلم والعدل؛ نظراً لأنه لا يوجد قانون، الذي لا يُسن إلا من خلال اتفاق بين البشر وتفويضهم لشخص مشرع، كذلك في حالة الطبيعة لم تكن هناك ملكية خاصة، وما هو ملك للإنسان يحصل عليه بقدراته وصراعه من أجل الاحتفاظ به مما يجعل القوة هي المعيار الوحيد للبقاء. 

فبمقتضى الحق الطبيعي، الإنسان يفعل ما يحلو له يستعمل حريته في استخدام القوة من أجل الدفاع عن نفسه لكي يحافظ على حياته. الإنسان في حالة الطبيعة، يسعى للحصول على حقوقه من خلال القوة، حيث يكون عقله هو القائد الذي يضمن بقائه. يقول هوبز: "في حالة كهذه يملك كل إنسان الحق على كل شيء، بما فيه الحق على جسد الآخرين".([3]) مع ذلك، فإن هذه الحرية المطلقة التي تخول للفرد فعل أي شيء في الحالة الطبيعية هي ما تجعل الكل في حالة حرب، لذلك، كي يحل السلام يجب على الإنسان أن يتخلى عن بعض حقوقه، وخاصة تلك المتعلقة بالحرية المطلقة، سواء كان ذلك فبالتخلي المباشر أو عبر التفويض.

يؤكد توماس هوبز على أن الإنسان الذي يتخلى بكامل إرادته عن حقوقه لا ينبغي أن يتراجع، لأن في رجوعه ظلم وضرر وعبثية. فالغاية من التخلي أو التفويض هي تحقيق الخير العام، الذي عادة ما يعود بالنفع على المجتمع بأسره. وإذا كان هذا الحق تفويضا يسميه هوبز عقد حيث يقول: " إن التفويض المتبادل للحقوق هو ما يسميه الناس عقدا".([4]) هذه الحقوق إذا احتفظ بها البشر يعني دوام الفوضى واللانظام، حسب هوبز، الاتفاقيات البعيدة عن السيوف؛ لا تثير خوف البشر، ليست قوة رادعة ووسيلة فعالة. إن السلطة وحدها القادرة على توفير الحماية وتحقيق السلام. يتطلب نشوء الدولة إقامة سلطة والتي تحدث باتفاق الأفراد، حيث إن الدولة ما هي إلا كيان اصطناعي، ليس وجودها وجود طبيعي؛ فهي نتيجة جمع الأفراد لقدراتهم وقوتهم وتفويضها لشخص واحد أو مجموعة من الأشخاص، فنكون أمام توحيد الإرادات في إرادة واحدة.

حسب هوبز: " كما لو كان كل فرد يقول للآخر: إنني أُخوّل هذا الرجل أو هذه المجموعة من الرجال، وأتخلى له أو لها أنت عن حقك وتُجيز أفعاله أو أفعالها بالطريقة عينها".([5]) وبموجب ذلك يخضعون لسلطة الحاكم المطلقة. الحاكم المطلق ليس طرفاً في العقد، السلطة كيفما كان شكلها تبقى أفضل مقارنة بالمآسي والحروب.

 بموجب رؤية هوبز، فإن حياة الأفراد وحرياتهم تكون تحت سلطة الحاكم، حيث تكون الطاعة واجبًا تجاه الذي  يضمن الحماية والأمن. فالحاكم المطلق لا يتصرف وفق أهوائه الشخصية، بل وفق ما يقره القانون، إذ يقول هوبز: "وحيث إن ما يفرضه الحاكم المُطلق هو بموجب قوة القانون السابق، وليس بموجب سلطته، فهو بالتالي يُصرح بأنه لا يريد إطلاقاً شيئا أكثر مما هو مُستحق بموجب هذا القانون".([6])   ومع ذلك، فإن أكبر تهديد للدولة يكمن في الاضطرابات الداخلية التي تضعف الدولة وتفككها.

 لذا، يتوجب على الأفراد الخضوع والامتثال للقانون، طالما أنهم يعيشون في ظل الدولة. لكن هذا الخضوع مُلزم للأفراد فقط، بينما يظل الحاكم المطلق فوق القانون، باعتباره المصدر الأساسي للسلطة والتشريع." ولما كان هذا الخطأ يضع القوانين فوق الحاكم المطلق، فهو يضع أيضا قاضيا فوقه، أي له القدرة على معاقبته، مما يعني إقامة حاكم مطلق جديد وثالث، للسبب عينه، وهكذا دواليك، ودونما نهاية حتى الوصول إلى الفوضى وإلى حل الدولة ".([7]) فالقوانين ليست وسيلة للحد من سلطة الحاكم، بل وظيفتها الأساسية هي توجيه الأفراد وإرشادهم  لمنع إلحاق الضرر تجاه أنفسهم واتجاه الآخرين. ومن هذا المنطلق، يجب على الحاكم أن يختار المستشارين ذوي الخبرة والمعرفة العميقة، القادرين على ضمان الاستقرار وتجنب الاضطرابات التي قد تهدد النظام العام.

  إذن الغاية من عدم خضوع الحاكم للقوانين هو تفادي العودة إلى حالة الحرب والفوضى. حتى لو كان الحاكم طاغية ومستبدًا، فإن استبداده  يظل (في نظر هوبز) خيارًا أقل ضررًا من غياب السلطة وانتشار الفوضى. ولهذا السبب، منح هوبز الحاكم الحق في مراقبة ما يُنشر في الكتب، التي قد تحتوي بين ضفتيها تحريضاً ضده، لأن ذلك يشكل تهديدًا لوجوده، وبالتالي إن الدولة كيان اصطناعي يصنعها الإنسان، لذلك، نتساءل عن الحالة التي كان يعيشها الإنسان قبل نشوء الدولة؟ في الحالة الطبيعية، كان قانون الغاب هو السائد، حيث الضعيف يعيش تحت رحمة القوي، ويعيش الإنسان وفق أنانيته المطلقة، مستخدمًا حريته المطلقة لتحقيق رغباته حتى وإن كان ذلك على حساب الآخرين.

 في حالة الطبيعة، يتمتع الأفراد بالمساواة المطلقة، لكن هذه المساواة تؤدي إلى تصادم الإرادات، مما يشعل فتيل الصراع الحرب. فغياب القانون المنظم لحياة الناس يخلق بيئة من الفوضى تسودها المنافسة الشرسة. وفقًا لهوبز، فإن أسباب الصراع متعددة، من ذلك تساوي الأفراد في القدرات الجسدية والذهنية وحتى في الأهداف المراد تحقيقها. وكما يقول هوبز: "فكل الناس سواسية ولكل منهم قوة طبيعية بما يكفي لقتل الآخر. والضعف يعوض بالقوة وفي حالة انعدام الأمن تتساوى الاحتمالية في رغبة القتل عند الجميع. فالعلة تدعو إلى وجود للدولة في توفير الأمن للفرد الذي يشعر بعدم الأمن من الجميع وأنه مهدد من الآخرين".([8])

إلى جانب ذلك، يُعد التنافس على الموارد النادرة من الأسباب الجوهرية للصراع، حيث يسعى الجميع للحصول على نفس الأشياء الضرورية للحياة، لذلك؛ الأمر سيحل بالصراع من أجل الحصول عليه. كما أن النزوع إلى الحرب لا يقتصر على الحاجة المادية فقط، بل يشمل أيضا الرغبة في إثبات الذات، واكتساب القيمة والاحترام من الآخرين، والسعي إلى الهيمنة والسيطرة. وهذا يؤدي إلى انعدام الثقة بين الأفراد، لأن غياب سلطة سياسية قوية يجعل الجميع متساوين في فرض إرادتهم، مما يدفع كل شخص إلى اعتبار أي فعل يخدم مصلحته أمرًا عادلاً ومشروعًا.

 في غياب المجتمع المدني، ينساق الإنسان لأهوائه وانفعالاته، والتي، وفقًا لهوبز، ليست خطايا بحد ذاتها، فهوبز عاش أهوال الحرب الأهلية والاضطرابات السياسية، مما دفعه للتفكير في الشروط العقلية التي بواسطتها يتم تحقيق السلام والاستقرار. من بين هذه الشروط ضرورة وجود سلطة عامة يخاف الجميع منها، ووضع قوانين صارمة تردع كل من يحاول تهديد الأمن أو الاعتداء على الآخرين. وكما عبّر هوبز عن ذلك بقوله الشهير: "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان!" على حد تعبير هوبز، في حالة الطبيعة، تكون حياة الإنسان وحشية، مليئة بالخوف، وقصيرة الأمد، مما يجعل تأسيس الدولة ضرورة ملحّة لضمان البقاء وتحقيق النظام.

   عارض توماس هوبز العبارة العائدة إلى أرسطو القائلة بأن " الإنسان مدني بالطبع" أو "حيوان سياسي بفطرته"، إذ يرى بأن البشر فعلا لديهم رغبة وميل طبيعي للاجتماع والتفاعل مع بعضهم البعض، لكن المجتمع المدني ليس مجرد تجمع بشري، بل هو نظام تحكمه القيود والروابط القانونية. من منظور هوبز، أي تمرد أو عصيان ضد القانون لا يؤدي إلا إلى الفوضى والعودة إلى حالة " حرب الكل ضد الكل"، حيث يسود العنف وتنعدم الثقة بين الأفراد. وبذلك، فإن خسارة التمرد على السلطة تفوق أي مكاسب محتملة، لأن انتهاك القوانين يقوض أسس المجتمع ويهدد الأمن الجماعي.



([1]) إمام عبد الفتاح إمام, توماس هوبز فيلسوف العقلانية, دار الثقافة للنشر والتوزيع, ص 19.

([2])  توماس هوبز, اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة؛ ترجمة: ديانا حرب, وبشرى صعب, مراجعة وتقديم: د. رضوان السيد, ط1, هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث "كلمة" ودار الفارابي 2011, ص 135.  

([3]) المرجع نفسه, ص 140.                                                                                                                                                     

([4])توماس هوبز, اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة؛ ترجمة: ديانا حرب, وبشرى صعب, مراجعة وتقديم: د. رضوان السيد, ط1, هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث "كلمة" ودار الفارابي 2011, ص142.

 المرجع نفسه, ص 135.([5])

 المرجع نفسه, 226.([6])

([7])  توماس هوبز, اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة؛ ترجمة: ديانا حرب, وبشرى صعب, مراجعة وتقديم: د. رضوان السيد, ط1, هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث "كلمة" ودار الفارابي 2011, ص 322.

([8]) الفعل السياسي  بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنّه آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. علي عبود المحمداوي, تقديم: د. محمد شوقي الزين, دار الفارابي, بيروت, ط1, 2013,ص 589.  

سعيدة مهير
سعيدة مهير