أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

الشر المطلق وأزمة القيم عند طه عبد الرحمن

الشر المطلق وأزمة القيم عند طه عبد الرحمن

إذا كان إيمانويل كانط قال بجذرية الشر، وحنة أرندت قالت بالشر المبتذل، فإن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن تحدث عن بعد آخر للشر، وهو الشر المطلق. وِفق رؤيته، ربما الناس يعتقدون بأن الشر المطلق مستحيل لن يتحقق أو بعيد المنال؛ إلا أننا اليوم نشاهده وكشف لنا الواقع تجلياته القاسية. حيث يرى فيلسوف الأخلاق  طه عبد الرحمن بأن براءة الأطفال تزهق، كما أن العافية من المستشفيات تطرد، يعيش الإنسان في دوامة من الرعب، مما يعني أن القيم تُحتضر أمام أعيننا. إن الشر المطلق، كما يصفه فيلسوف الأخلاق، ليس مجرد فكرة تجريدية، بل واقع ملموس يُفرض علينا، مما يجعلنا أمام تحدّ أخلاقي عميق: كيف نواجه هذا الشر قبل أن يبتلع ما تبقى من إنسانيتنا؟

أنواع الشر ووجوب التصدي له

 يدعو طه عبد الرحمن إلى التصدي لهذا الشر واعتبره واجب وجوب عين، لأن التصدي له ليس مجرد خيار أخلاقي، بل واجب عيني لا يمكن التهرب منه، فقتل نفس واحدة يعادل قتل البشرية جمعاء. في هذا السياق، يشير الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان إلى ما يلي: " يتبين أن ’الشر المطلق‘ ليس مجرد تأزيم للقيم التي بين أيدينا، بحيث يصح أن نقول: إن الشر المطلق عبارة عن أزمة القيم".

يضيف: "إن الشر المطلق عبارة عن انقلاب القيم، وإنما هو على التعيين، قتل القيم أو محوها بما يُفقد الإنسان القدرة على تمييز الخير من الشر والحق من الباطل، بحيث يصح أن نقول: إن الشر المطلق عبارة عن فتنة القيم".([1]) وبالتالي الشر المطلق ليس مجرد أزمة القيم، بل انقلاب جذري فيها، حيث تفقد القيم معناها وتتحول إلى أضدادها، مما يؤدي إلى طمس الفروق بين الخير والشر، والحق والباطل. إذن نجد أنفسنا أمام مشهد جد مأساوي، وكأن الإنسان أُصيب بالعمى القيمي، يقف عاجزًا أمام إدراك المعايير الأخلاقية، لقد أصبح الشر المطلق واقع ملموس وليس مجرد أفكار فلسفية.

لقد ميز أستاذ المنطق بين ثلاثة أنماط رئيسية من الشر، وهي الشر المتجذّر والمبتذل والمطلق. فالشر المتجذر الذي يعني بأن الإنسان مجبول على الشر وهو الأمر الذي قال به الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط؛ الذي رأى أن الشر متأصل في الطبيعة البشرية. أما الشر المبتذل فهو يعني أن الإنسان يجد نفسه مجبر على الخضوع الأعمى للمنظومات والأوامر البيروقراطية، حيث يفقد الإنسان القدرة على التفكير النقدي، وبالتالي يصبح مجرد أداة لتنفيذ الأوامر، ولنا في أدولف أيخمان ( أحد منفذي المحرقة النازية) نموذج؛ أما الشر المطلق وفقاً للفيلسوف طه عبد الرحمن، فهو حالة قصوى من الإيذاء تطال عموم الناس، حيث تفقد القيم معناها، وتصبح الإنسانية ذاتها مهددة.

 في هذا السياق، ينبغي أن نعترف بهشاشة الإنسان، رغم أن وجود نقيض الخير يبدو ضرورة حتمية، خاصة في ظل الحرية التي يتمتع بها الإنسان. لكن المفارقة تكمن في أن هذه الحرية قد تصبح أكثر ضرر، إذ أن الإنسان، ضعيف أمام أهوائه ورغباته، قد ينحرف إلى الشر، مما يجعله شريراً، فهذا العجز الذي يحسه الإنسان يريد أن يخفيه بواسطة الشر؛ هذه الفكرة تتقاطع مع رؤية الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، الذي أكد أن اللاعصمة ومحدودية الإنسان هما ما دفع الإنسان إلى دائرة الشر، حيث يقف الإنسان بين قدرته على الاختيار وبين هشاشته الوجودية، مما يجعل الشر جزءًا من معضلته الأخلاقية.

ثنائية الخير والشر: هشاشة الإنسان ومسؤولية الاختيار

 يرى بول ريكور أن عدم تناسب الإنسان مع ذاته ومع العالم الخارجي يجعله كائناً ضعيفاً هشًّا، مما يولد له الإحساس بالدونية والضعف، فيصبح كائن متسلط يسبب الأذى للآخرين كوسيلة للتعويض عن هذا الإحساس. هذا الأمر يسمح لنا بالقول الآتي: أينما وُجد الإنسان فثمة شر؛ فالإنسان هو الجاني والمجني عليه في آن واحد، يعيش في صراع دائم بين حريته من جهة ومحدوديته من جهة أخرى، بين الشر الذي يسكنه والخير الذي ينشده. أما في تصور الفيلسوف طه عبد الرحمن، فإن الشر كان موجوداً منذ القدم، لكنه الآن في عصرنا الحالي ظهر بكليته وبأقسى صورة؛ حيث تم تخريب الفطرة الإنسانية، وهي التي كانت تعتبر مستودع القيم والأخلاق. فهذا التحول شكل خطراً وجوديًا على الإنسانية، لأن انهيار الفطرة يعني بكل بساطة انهيار الأسس الأخلاقية التي تحمي وتحفظ توازن المجتمعات.

  يقول بول ريكور بأن إمكانية الشر منقوشة في تكوين الإنسان، فهو جزء من هشاشته الوجودية، لكن هذا لا يعني الاستسلام له، فالشر هو ما لا ينبغي أن يكون بل يجب مواجهته بكل الطرق الممكنة. والتفكير فيه لا يعني إلغائه والقضاء عليه بشكل نهائي، ولكن رغبة في التخفيف منه ومن آثاره والحد من انتشاره. لكن لماذا لا يمكن القضاء عليه تماماً؟ لأن الوجود نفسه يتطلب وجود ثنائية الأضداد، لا يمكن تصور الخير دون وجود الشر، تماماً كما لا يُعرف النور إلا بوجود الظلام.  في هذه الثنائية، يصبح الإنسان مسؤولاً عن اختياره: أي جانب سيقوم بتغذيته أكثر هل الشر أم الخير؟. لا يكفي أن يعرف الإنسان الخير وأن يكون مدركاً له، بل ينبغي أن يسعى إلى ترسيخه في أفعاله، وإلا ستترك الساحة للشر!

  إن الشر هو ضد الخير، فهو نتيجة نقصان الإنسان في طبيعته. وقد رأت حنة أرندت، بأن الشر ليس مجرد ميل داخلي، بل هو فعل يتم توجيهه ضد الآخر. وفق أرندت عندما نفكر في الشر، فإننا بذلك نفكر ونتفحص ما وصل إليه الوضع البشري؛ لأن أفعال الإنسان منفتحة على كل الإمكانيات، فهذا النقصان والضعف هو الذي يجعل الإنسان يرتكب أفعال بعيدة كل البعد عن الإنسانية. حيث تقول الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت في كتابها الوضع البشري: " إن الشر الذي ينكشف وقح وهو يقوّض رأساً، العالم المشترك؛ والخير الذي ينكشف ليؤدي دوراً عموميا لم يعد خيراً، إنه يفسد داخليا وهو يحمل معه فساده أين ذهب".([2])

طه عبد الرحمن: مسؤولية الإنسان الأخلاقية تجاه العالم

الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، اعتبر بأن العلاقة التي تجمع الإنسان بالعالم هي علاقة أمانة، لا علاقة سيادة. فالإنسان ليس مالكاً مطلقاً لهذا العالم، بل هو مسؤول عنه أخلاقيا، وعليه أن يحفظ القيم بدلاً من تدميرها. بحسب إيمانويل كانط، فإن الشر يمكن تجنبه وذلك بإصلاحٍ على المستوى الأخلاقي، أيضا يرى أرسطو أن الفضائل الأخلاقية يكتسبها الإنسان بالتعلم والممارسة، مما يعني أن الإنسان ليس محكوماً بالشر، ولكنه في أمس الحاجة إلى تربية أخلاقية تمكنه من الميل إلى الخير بدلا من الخضوع والاستسلام لنوازع الشر.


([1])طه عبد الرحمان، الشر المطلق ومسؤولية الفيلسوف، جزيرة نت، 2024.    

([2])حنة أرندت، الوضع البشري، ترجمة، هادية العرقي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ص 98.

سعيدة مهير
سعيدة مهير