أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

المجال العمومي بين الحرية والتعددية

المجال العمومي بين الحرية والتعددية
  

تحتل مفاهيم التعددية، الفعل السياسي، الحرية، والعيش المشترك مكانة محورية في فكر الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، حيث تذوب وتنصهر هذه المفاهيم لتشكل مفهوم المجال العمومي، كفضاء للظهور. الذي يمكن تشبيهه بخشبة المسرح، حيث يظهر الأفراد ويتفاعلون فيما بينهم. لا يمكن تصور حياة إنسانية حقيقية إن لم يكن هناك بشر آخرون "بل أيضاً لأن معنى أن تكون إنسانيا عندها هو العيش مع آخرين هم متميزون عنا ويشبهوننا في آن".([1]) وبالتالي فجوهر الوجود الإنساني، وفقًا لأرندت، يقوم على العيش المشترك.

إن ما يمنح  وجودنا الإنساني معنى هو حضور الآخر، ذلك المختلف عنا وشبيهنا في آنٍ واحد، هذا الآخر الذي تجمعني به علاقة تذاوتية تؤسس لفضاء يقوم على التعايش والتفاعل. في هذا السياق، يلعب الفضاء العمومي دوراً محوريًا في ترسيخ عدة قيم جوهرية من ذلك الديمقراطية، التعددية، والحرية. كما أننا لا ننسى بأن إيمانويل كانط، كان يدعو إلى أهمية الجرأة في استخدام العقل، يمكن أن نقول عن كانط؛ بأنه المنظر الحقيقي للمجال العمومي، خاصة في مقالته الشهيرة ما التنوير؟ فقد شدد على أهمية التفكير النقدي والاستقلالية الفكرية كشرط أساسي لتحقيق الحداثة.

 لقد عرف كانط التنوير بأنه خروج الإنسان من حالة القصور العقلي إلى مرحلة النضج الفكري، حيث جعل شعاره الأساسي: تجرأ على استخدام فهمك الخاص! مؤكداً على ضرورة التحرر من الوصاية. كما أنه حث على أهمية انعتاق المرء من العجز الذاتي، فالطبيعة حررت الإنسان من أي قيود وأغلال وسلاسل خارجية. نجد عدد من الناس يميلون إلى الكسل والعجز، هذا الأمر يجعل الآخرين ينصبون أنفسهم بكل سهولة قادة عليهم ومرشدين لهم. حسب كانط فالتنوير يتطلب الحرية كشرط أساسي، من أجل الاستفادة من عقل الفرد في مختلف المجالات، لأن الإنسان يملك عقلا يستطيع به كشف الحقائق وإدراك العالم من حوله، هذا العقل المثقف والمتعلم والمستخدم بشكل علني يجعل الإنسان يصل إلى مرحلة النضج.

 لقد كرس كانط حياته الفكرية لتحرير الإنسان من كل أشكال القيود، مما جعل فلسفته علامة فارقة في تاريخ الفكر الحديث. يشكل الفضاء العمومي مجالاً أساسيًا لتحرير عقل الإنسان من الأوهام، الخرافات، الدوغمائية والعنف، كما أنه يساهم في تجاوز حالة الاغتراب بالمفهوم الآرنتي. وقد تأثر كل من الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس وحنة أرندت بمفهوم كانط للعمومية، فقد اعتبر الأخير الفضاء العمومي فضاءً مفتوحًا لتبادل الآراء، حيث يمكن نقدها وفحصها بحرية. فقد كان القرن الثامن عشر، بفضل التنوير، قرن النقد والتفكير العقلاني بامتياز، مما رسخ دور المجال العمومي كدعامة أساسية للحداثة والديمقراطية.

 كان الفضاء العمومي يتمتع في بداياته بوظيفة نقدية تهدف إلى تعزيز الحوار العقلاني والمشاركة الديمقراطية، لكنه مع مرور الزمن تحول إلى أداة للهيمنة والسيطرة، وأصبح مسرحًا للطبقية والدعاية والتلاعب بالرأي العام لخدمة مصالح جهات معينة. وفقاً ليورغن هابرماس يكون الفضاء العمومي مستقلا عن الأجهزة الإدارية للدولة، كما يجب أن يتحرر من سيطرة المؤسسات التقليدية مثل القبيلة والعائلة، ليتمكن الأفراد من التعبير عن آرائهم بحرية والمشاركة بفعالية في صنع القرار بما يخدم الصالح العام. 

لئن كان باستطاعة الإنسان الكدح والعمل بعيداً عن الآخرين، لكنه لا يستطيع أن ينخرط ويمارس الفعل السياسي لوحده بعيداً عن عين وتأثير الآخر، إذ لا يمكن تخيل كيان إنساني منفصل تمامًا عن مجتمعه. فالوجود البشري مشروط بالتواجد الدائم مع الآخرين داخل الفضاء العمومي، حيث يشكل الآخر جزءًا أساسيا من التجربة السياسية والاجتماعية.

يقول فيليب هانسن، الباحث في العلوم السياسية بجامعة ريجينا في كندا ما يلي: "وليس من المبالغة الادعاء أن المطلب الرئيس الذي تطالبنا به أرندت هو أن نولي اهتماماً، أكثر مما نفعل عادة في ثقافتنا الفردانية، إلى حقيقة أننا نعيش في عالم مع آخرين، وأن ميزة المؤسسات السياسية السليمة هي في أنها لا تقوم فحسب على أساس التعددية، بل في أنها ترعى أيضا هذه التعددية، جاعلة منها قوة حية ومرئية في حيواتنا اليومية".([2])

 لقد تطرقت المنظرة السياسية حنة أرندت لتعريف أرسطو للإنسان بأنه حيوان سياسي، مشيرة إلى أن الترجمة القديمة للعبارة أنه حيوان اجتماعي. إلا أن ارنت بررت ذلك بأن الفعل السياسي لا يمكن تصوره بعيداً عن الاجتماع البشري. كان تأسيس البوليس (الدولة المدينة) في اليونان القديمة تجسيداً لهذا الفضاء العمومي، وفضاء للفعل السياسي، وهذا الأمر هو الذي جعل الأثينيين في تعايش مشترك ومنحهم فرصة لعيش كامل حياتهم في المجال السياسي. 

المجال العمومي، في جوهره، هو فضاء للفعل السياسي، كما أنه ساحة للتعددية والاختلاف في الآراء والتوجهات. كما يحتاج الفنان، النحات، المسرحي، والموسيقي إلى جمهور يرى إبداعه، فإن الإنسان الفاعل سياسيًا يحتاج بدوره إلى فضاء عام يمارس فيه حريته ويعبر عن آرائه. إن الفضاء العمومي لا يصبح سياسي إلا داخل المدينة، حيث يرتبط بمكان محدد يتيح للأفراد فرصة التعايش، التواصل، والحوار مع الأغيار. لقد كان ظهور المجال العمومي على حساب المجال الخاص، إذ إن خروج  الإنسان من مجاله الخاص إلى غمار المجال السياسي يتطلب شجاعة كبيرة. إن كل ما يظهر في المجال العمومي، هو قابل لأن يُرى ويُصغى  له، لأن حضور الآخرين هو ما يمنح العالم واقعيته، كما أنه يؤكد وجودنا الفاعل.

  يلعب المجال العمومي دوراً أساسيًا في تحرير الذات من التواري والاختفاء، إلى حيز البدو والظهور والمشاركة في الحياة العامة. ومع  تطور التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال، لم يعد الفضاء العمومي مجرد ساحة للنقاش السياسي التقليدي، بل أصبح وسيطاً ديناميكيا يربط المجتمع بالدولة، فيه يتم إثارة القضايا العامة وتبادل الآراء حولها. وبهذا، يتحول الرأي من مجرد موقف فردي خاص إلى خطاب علني مؤثر في الشأن العام. 

من خلال الفضاء العمومي، يتمكن الأفراد من المشاركة الفاعلة في التغيير الاجتماعي وإيجاد الحلول لمختلف القضايا، ويتحقق هذا بمنح الحرية في التعبير، واحترام الآراء، وتقبل النقد، والقضاء على سياسات الإقصاء التي تعيق الحوار الديمقراطي. إن هذه المبادئ لا تعزز فقط التقدم الاجتماعي، بل تسهم أيضا في تحقيق الازدهار الاقتصادي والغنى الفكري. فالاعتراف بالآخر والانفتاح على التنوع والاختلاف يعززان المصلحة المشتركة، إذ يصبح العقل أداة للحوار والتسامح، مما يرسخ أسس مجتمع أكثر عدالة وانسجامًا.

إن منح المواطنين حرية التعبير سيشكل إرادة سياسية حقيقية في التغيير، إذ يمنحهم القدرة على اختيار من هم الأكفأ لخدمة الوطن بعيداً عن هيمنة القمع في عملية التواصل. فغياب الحرية يدفع الأفراد إلى العزلة والتقوقع على ذواتهم، مما يؤدي إلى عزوفهم عن المشاركة في النقاش العام. يساهم الحوار داخل الفضاء العمومي في الحد من العنف، أو التخفيف منه، أو تجنبه من الأساس من خلال تعزيز التفاهم بين الأفراد والجماعات. اعتبر يورغن هابرماس الفضاء العمومي فضاءً للتواصل والحوار، له ارتباط بممارسة المواطنة والفعل السياسي في جو ديمقراطي يساعد على اتخاذ القرارات السياسية التي تحقق الخير العام. 

ولتحقيق ذلك، يشدد هابرماس على ضرورة الالتزام بأخلاقيات الحوار، بحيث يتمتع كل فرد بحقوق متساوية في التعبير عن آرائه، مع تقديم أفكاره استنادًا إلى الحجج العقلية والبراهين، مما يعزز مناخًا ديمقراطيًا قائما على النقاش الحر. إن التفكير في السياسة، بطريقة أو أخرى، مشروط بالتفكير في الفضاء العمومي، سواء كان واقعي أو افتراضي. فهو كما عبر عن ذلك هابرماس حلبة للنقاش العام، حيث يتم الكشف عن الحقائق، ليصبح الفرد فاعلاً بدل من أن يكون مفعولاً به. بفضل المجال العمومي يخرج الإنسان من الظلمات: "وبما أن تصوّرنا يخضع تماماً إلى المظهر، وبالتالي يخضع إلى وجود مجال عمومي حيث يمكن للأشياء أن تظهر وتتخلص من ظلمات الحياة الخفية، فإن الغروب نفسه الذي يُنير حياتنا الخاصة وحياتنا الحميمية هو انعكاس لنور ساطع للمجال العمومي".([3]) 

يكتسب المجال العمومي مع حنة أرندت بعداً أعمق، فهو لا يقتصر على مجرد رؤية وسماع الآخرين، فإن الأمر يتعدى ذلك إلى التمييز والاختلاف والانكشاف أمام الآخر، باعتباره مجالاً للتعددية وممارسة الفعل السياسي. هذا الأخير الذي يتطلب الكثرة البشرية وأن يكون البشر متساوين، وأيضا متميّزين، حيث تقول أرندت في كتابها "الوضع البشري": " إن الكثرة البشرية، الشرط الأساس لكل من الفعل والكلام، تملك الطابع المزدوج للمساواة والتميز".([4]) إن السياسة لا تنشأ بمجرد اجتماع البشر، بل تتبلور من خلال تأسيس فضاء عمومي تُبنى فيه  العلاقات وتتوطد. إن الحديث عن المجال العمومي عند أرندت مرتبط بالنقاشات المعاصرة حول الحياة الحضرية، خاصة في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة. ويظهر ذلك من خلال إمكانية الوصول إلى مواقع مشتركة يجتمع فيها الأفراد بوصفهم مواطنين فاعلين، يشاركون معًا في صياغة الشأن العام واتخاذ القرارات. في هذا السياق، تنتقد أرندت مجتمع الوفرة والاستهلاك، الذي رغم ازدهاره المادي، فقد قدرته على خلق روابط اجتماعية حقيقية، لأنه ساهم في تعزيز العزلة والتباعد. 

 تعطي أرندت مثالاً معبّرًا عن انحسار المجال العمومي واختفائه، فتتخيله كطاولة يجتمع حولها عدد من الأشخاص، مجتمعين معا، وفجأة  تختفي هذه الطاولة من بينهم. في هذه اللحظة الغريبة، لا يعود الأفراد منفصلين تمامًا عن بعضهم، ولكنهم في الوقت ذاته لم يعودوا مرتبطين بأي شيء ملموس يجمعهم. من خلال هذا التشبيه، تسلط أرندت الضوء على أهمية الفضاء العمومي باعتباره العنصر الذي يربط بين البشر، هذا الفضاء لا يكون حكراً على جيل بعينه دون آخر، بل يتجاوز حياة البشر الفانين إلى تحقيق نوعاً من الخلود الأرضي الذي تتوق إليه النفوس الفانية، حيث يصبح المجال العمومي ساحة تتيح استمرارية الفكر والفعل.

 إن العالم المشترك حسب أرندت هو ما ندخله عند ولادتنا، ثم نتركه خلفنا عندما نموت. فهو مشترك بيننا وبين من كانوا قبلنا ومن سيأتون بعدنا ممتد عبر الزمن. من هذا المنطلق، تؤكد أرندت على أن وجود المجال العمومي يجب أن يكون على وجه الدوام، ولا يرتبط بجيل واحد بل يتطلع للأجيال المستقبلية." والإنسان ككائن سياسي لا يتحقق خلوده ولا تدرك سعادته إلا داخل فضاء عمومي يحمي أهم مميزاته وهي الحرية، بما هي فعل ذو بعد أخلاقي وسياسي مسؤول، أو بالأحرى كمسؤولية تنبع من الذات وتمتد إلى الآخرين".([5]) سعت الفيلسوفة حنة  أرندت إلى توضيح أن للمجال الخاص أهمية أيضا، وأن هناك أشياء مهمة يكون المجال الخاص هو الأفضل لها؛ لكي تحافظ على ديمومتها، وبالتالي للمجال الخاص دور حيوي في الحفاظ على بعض القيم والمشاعر التي لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة إذا تم الكشف عنها للعامة. 

ومن أبرز الأمثلة التي تطرحها أرندت هو الحب، هذا الأخير الذي يموت بمجرد معرفة الآخرين له. حيث تقول أرندت: " فإننا سنرى أن هناك أشياء جد مهمة لا تحافظ على وجودها إلاّ في المجال الخاص. من ذلك الحب، الذي، وعلى خلاف الصداقة، يموت أو ينطفئ بمجرد أن يُكشف للجميع. ’لا تتكلم عن حبك‘، إن الحب الذي لا نتكلم عنه هو الحب الذي يوجد ويعيش".([6])  فهي ترى أن الحب على عكس الصداقة، يفقد جوهره أو ينطفئ بمجرد أن يصبح مكشوفاً أمام الآخرين.

ورغم أن الحب قد يُنظر إليه على أنه غير ذي أهمية سياسية أو غير قادر على تغيير العالم، إلا أن أرندت تؤكد أن له سحراً خارقاً يجعله قادراً على التأثير في مسار التاريخ. ففي كتابها "الوضع البشري" تقول: " وما يعتبره المجال العمومي دون أهمية له أحيانا سحر جد خارق للعادة وهو جد معد وقابل للانتشار بحيث يمكن لشعب بأكمله أن يتبناه باعتباره طريقة في العيش...".([7]) الأشياء التي ينظر إليها على أنها تافهة أو عاجزة عن إحداث الفرق، هي التي تكون قادرة على تحقيق السعادة. فالمجال العمومي يجمعنا فهو عالم المشترك، والمشترك حسب ارندت لا ينبغي أن يكون أنانيا فهو ليس مشترك مع من يعيشون معنا بل يتجاوز ذلك  تقول: " إنه ما يكون مشتركا بيننا لا فقط مع من يعيشون معنا، بل كذلك مشترك مع أولئك الذين كانوا هنا قبلنا ومع أولئك الذين سيأتون بعدنا".([8]) 

الحديث عن المجال العمومي يعني ضرورة أن ينكشف من خلاله الفاعل لنظرائه عبر الفعل والكلام، وليس عبر العنف والإكراه. لقد كانت ممارسة العنف في التصور اليوناني كأداة لإخضاع الآخرين عوض الإقناع، فعلاً غير مقبول داخل المدينة. لقد رأى الإغريق العنف يمثل فعلاً ما قبل السياسة لا يليق بالمواطنين داخل المدينة، الذي لا يجب أن يعكر صفو الحياة السياسية داخلها، والتي مثلت على الدوام مجالاً للحرية والمساواة، عبر الفعل السياسي وليس الفعل العنيف. حيث تمحورت الحياة السياسية حول الحوار والنقاش، وليس الإكراه والقوة.


 فيليب هانس, حنة أرندت: السياسة والتاريخ والمواطنة, ص 18.([1])

([2])فيليب هانس, حنّة أرندت: السياسة والتاريخ والمواطنة, ترجمة: خالد عايد أبو هديب, المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, ط1, بيروت, 2018, ص 18.

حنة أرندت, الوضع البشري, ترجمة, هادية العرقي, مؤسسة مؤمنون بلا حدود, ص 72([3])

 المرجع السابق, 197.([4])

([5])الفعل السياسي بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. محمد شوقي الزين؛ دار الفارابي, ط1, 2013,ص 396.

([6])حنة أرندت, الوضع البشري, ترجمة, هادية العرقي, مؤسسة مؤمنون بلا حدود, ص 73ـ 72.

 المرجع السابق, ص 200.([7])

([8])الفعل السياسي بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. محمد شوقي الزين؛ دار الفارابي, ط1, 2013,ص 76.

سعيدة مهير
سعيدة مهير