
الحسين ابن منصور الحلاج من رواد التصوف الإسلامي، معروف هو بتعاليمه الروحية العميقة ولد في ايران سافر إلى بلدان كثيرة كالهند؛ ومكة وخرسان ليستقر بعد ذلك في بغداد وفيها قتل. عرف الحلاج بقوله "أنا الحق" يعتبر هذا القول تعبير رمزي عن الفناء في الله. إلا أن هذا القول أظهر الحلاج وكأنه يدعي الألوهية؛ لكن الحقيقة أنه أراد أن ينفي نفسه ويثبت وجود الله!
هذه الأقوال والمواقف الجريئة، هي التي أدت إلى محاكمته وإعدامه؛ بتهمة الكفر والخروج عن الدين ومحاولة التقرب من الله بطرق غير مألوفة للعامة. لذلك اتفق علماء ذاك العصر على قتله فصلبوه وقطعوا أطرافه. يُعتبر شهيد العشق الإلهي، عدد من المستشرقين اهتموا بالحلاج على وجه الخصوص في التصوف الإسلامي. حيث اعتبروا بأن اعتقاده يشبه أو قريب من اعتقاد النصارى؛ واعتبروا إعدام الحلاج فيه الكثير من الظلم، لأنه قال بالحلول وهو الأمر ذاته يعتقدونه في عسيى عليه السلام بأن الله حل فيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات، التي قتل الحلاج عليها فهو كافر؛ مرتد باتفاق المسلمين. فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والالحاد كقوله: أنا الله؛ وقوله إله في السماء وإله في الأرض". لقد أثار الحلاج جدل كبير عبر التاريخ، كان لمقتله أسباب متعددة ترواحت بين الديني والسياسي، ولكن الأكثر صواباً هي تلك الآراء التي كان يعبر بها عن حبه لله ويخرج عشقه لعامة الناس.
لم يستطع الحلاج كتمان حبه لخالقه، أقواله حيرت عامة الناس لم يستوعبوا ولم يفهموا اقواله ليخرجوا بخلاصة مفادها أنها كافر وزنديق. على العموم هناك من عارض وهناك من اتفق معه؛ إلا أن الأساس أنه ظل شخصية ملهمة للأجيال عرب منهم وغربيين. لأن تجربته الروحية وغزارة شعره وأفكاره وتصوراته كانت قوية وفريدة لا يمكن أن يتخطاها الإنسان. كان يتوق إلى مغادرة الحياة التي اعتبرها ممات، رغبته في الانعتاق من ربقة وقيود الجسد وتحرير روحه للذهاب إلى بارئها.
الحلاج كغيره من الصوفية اعتبر بأن الوجود واحد وهو الله. وأن كل الموجودات هي تعبير عن هذا الوجود، وكل الطرق تؤدي إليه سبحانه. فقد اعتبر الحلاج الله موجود في كل مكان؛ ويرى الله في كل شيء.كان الحلاج كله شوق للحظة الخلاص؛ بناء على ذلك كان سعيداً لحظة إعدامه وقال: "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وتقربا إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت؛ فلك الحمد في ما تفعل ولك الحمد في ما تريد".
إن الحلاج وجميع أهل التصوف كشهيدة العشق الإلهي؛ كانت لديهم نظرة كونية
شمولية. دعوة الحلاج الروحية بنيت على أسس إنسانية، كان يتبنى فكرة وحدة
الأديان كيف لا وهو الذي استفاد من سفره لعدة بلدان عرف علومها وتقاليدها،
وثقافاتها. كما أن شعر الحلاج شديد الحرارة والبعد عن المادة، لكن هذا الشعر
ولغة الحلاج بصفة عامة غير مألوفة للأكثرية ؛حيث نظرات الاستغراب وهو الآخر غير
مكترث، يتصرف تصرفات غريبة يحب الموت ويشتهيه ثيابه ممزقة ويخاطب الناس
قائلا: " يأيها الناس، اعلموا أن الله قد
أباح لكم دمي فاقتلوني، اقتلوني تؤجروا، وأستريح، اقتلوني، فتكتبون عند الله
مجاهدين، وأكتب أنا شهيدا".
أو قوله شعراً:
" اقتلوني
يا ثقاتي إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي ومماتي
في حياتي"
تنسب هذه الأبيات للحلاج وهي من أكثر الأبيات التي تظهر لنا رغبته في الموت، وتعبر عن فلسفته الصوفية العميقة. فهو هنا يخاطب تقاته، أي الذين يتبعونه ويثقون به ويثق بهم؛ لذلك فهو يطلب منهم أن يقوموا بقتله هو لا يعتبر بأن هذا القتل سيشكل نهاية لوجوده الروحي، بل العكس سيؤدي إلى أن تكون له حياة أبدية فهو موت ظاهري من أجل أن يصل إلى الحياة التي الأبدية، فالحلاج يعتبر حياته الحقيقية هي ممات جسده! لأنه يعتبر أيضا بأن حياته الدنيوية هي موت روحي؛ له لم يحب البقاء في الجسد لأنه يبعده عن الفناء في الله إن الصوفي بشكل عام يتخلى عن الأنا والجسد من أجل أن يتحد مع الله ،التي هي الحياة الحقيقية بالنسبة له لهذا فالموت الجسدي تحرير للروح.
طبعا كما سبق الإشارة هو أن الدولة العباسية لم ترض عن الحلاج ولا عن أقواله وشعره وتصرفاته فبدأت الخلافات من جهة القضاة والفقهاء، ومن جهة أخرى الشاعر المتصوف. وتنتهي هذه الخلافات بأن يُقاد الحلاج إلى ساحة الإعدام؛ نقلوا لنا طقوس هذا القتل، حيث قيل بأن الحلاج لم يتألم! ولم يصرخ بل كان سعيداً ويضحك! بل توضأ بدمه، استغربوا فسألوه فأجاب:
" ركعتان في العشق، لا يجوز وضوؤهما إلا بالدم". الصلاة في الفكر الصوفي تأخذ معنى رمزي، هي أعمق من تلك العبادة الظاهرية، الشكلية فهي تستند على الحب والعشق الذي يعتبر أعلى مرتبة. الحب الصوفي يتجاوز الحب المادي البشري إلى الارتباط الروحي بالله. "ركعتان في العشق" هي حالة روحية للحلاج تعبر عن حبه العميق "لا يجوز وضوؤهما إلا بالدم" نعرف بأن الوضوء في الإسلام، هو تلك الطهارة التي تكون قبل الصلاة. ولكن الحلاج هنا في هذه اللحظة أي لحظة إعدامه، يذهب إلى ما هو أعمق حيث يعتبر بأن الصلاة تحتاج أروع طهارة وهي "العشق". وليس الطهارة المادية، أي الماء هذه الطهارة الروحية عند إمام العارفين، لا تتحقق إلا بالتضحية وهي أنه قدم نفسه،" فالدم" يعتبر من رموز الفداء والتضحية.
بناءً على ذلك فالعشق الإلهي لا
يمكن بلوغه حسب الصوفي بالطقوس الدينية الظاهرية، بل بتقديم النفس والتضحية وهذا
ما فعله الحلاج فقد قدم حياته في سبيل العشق الإلهي.للحلاج تراث شعري غني في العشق
الإلهي من ذلك هذه الأبيات:
"والله ما
طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا ذكرتك محزونا ولا
فرحا إلا وأنت بقلبي بين وسواسي"
وبلغ الحلاج من شوقه حد اﻹبتلاء،
فيناجي قائلا:
"لبيك لبيك يا
سري ونجوائي لبيك لبيك يا قصدي ومعنائي
بل كل كلي ويا سمعي
ويا بصري يا جملتي وتباعيضي وأجزائي"
أما اﻷبيات الشهيرة ، التي لحنها
وغناها' مارسيل خليفة':
"يا نسيم الروح
قولي للرشا لم يزدني الورد إلا عطشا
لي حبيب حبه وسط الحشا إن يشا يمشي على خدي مشا"
وبناءً على ما تقدم، فإن الحلاج من أبرز رموز التصوف الإسلامي، ساهم في ترك تراث صوفي غني جدد مفاهيم العشق الإلهي والفناء في الله، زاهداً عابداً ومخلصاً لله بعيداً عن العبادة السطحية والشكلية. أبدع الحلاج في الكثير من الأبيات الشعرية التي تعبر عن تجربته الروحية وعشقه الإلهي، من أشهر أبياته "أنا الحق" التي قادته إلى ساحة الإعدام، فقد فسرت أنذاك بانها ادعاء للربوبية. لقد شكل الحلاج تحدي للموروث التقليدي كانت أشعاره جريئة، وقدم في سبيل عشقه لله حياته.