أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

من هو النفري؟ صاحب "المواقف والمخاطبات" وعبارة "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"

من هو النفري؟ صاحب "المواقف والمخاطبات" وعبارة "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"

النفري هو محمد بن عبد الجبار، أحد أعلام التصوف في القرن الرابع الهجري، ورجل غامض لا نعرف عن حياته إلا القليل. لم يكن من مشايخ الطرق، ولا من الذين تركوا وراءهم مجالس أو تلاميذ كثرا، بل كان عارفا بالله، كثير السفر والترحال.

كان النفري اختار أن يذوب في تجربته الروحية، تاركا لنا من أثره كلمات لا تزال حية، تشهد على عمق رحلته في حضرة الله. أشهر ما وصلنا عنه كتاب المواقف والمخاطبات. في المواقف يروي لحظات كشف روحي، يقول فيها: "أوقفني في موقف كذا وقال لي". هي لحظات مواجهة بين العبد وربه، حيث يقف الإنسان على حدود اللغة عاجزا عن التعبير، فلا يبقى إلا الإشارة.

أما المخاطبات فهي حوار عجيب بين العارف وربه، يفيض بالرموز والمعاني، تارة مملوءة بالرهبة، وتارة أخرى مشبعة بالسكينة. علمنا النفري أن الحيرة ليست ضعفا، بل هي من علامات القرب من الله. كلما اقترب العبد من حضرة الحق، ازداد دهشة ووجلا، لأن المطلق لا يحد ولا يدرك بالعقل.

ولهذا لقبه الباحثون بـ صوفي الحيرة. عنده "الوقفة" مقام عظيم: أن تقف بين الخوف والرجاء، بين اليقين واللايقين، وأن تدرك أن كل ما تراه من كائنات هو إشارات إلى الواحد الأحد. كانت كلمات النفري غريبة على زمانه، مكثفة، موجزة، أشبه بومضات النور.

شاهد الفيديو

قال عنه المستشرق لويس ماسينيون: "إنها لغة تقترب من لغة الوحي، لأنها لا تشرح ولا تفصل، بل تلقي بالكلمة كما تلقى شرارة في الظلام". وربما لهذا السبب بقي أثره خالدا، وألهم من بعده كبار الصوفية مثل ابن عربي، كما ألهم الفلاسفة والمفكرين المعاصرين.

النفري، باختصار، لم يأت ليعلمنا طريقا واضحا، بل ليأخذنا معه إلى حدود التجربة الروحية، حيث تصمت العقول وتنطق القلوب. هو العارف الذي وقف على حافة المطلق، فرأى أن الله أعظم من أن يدرك، وأن الطريق إليه مليء بالدهشة والسكينة معا. لذلك تبقى كلماته مثل أبواب، من يطرقها بقلب صادق يكشف له باب من أبواب المعرفة الإلهية.

حياة النفري بقيت في غموض شديد، فلا نعرف عن ولادته ولا عن وفاته، ولا عن تفاصيل سيرته. لكن المؤكد أنه عاش في القرن الرابع الهجري، وكان معاصرا لمحنة الحلاج التي تركت أثرا عميقا في قلوب المتصوفة، فدفعتهم إلى التحفظ والكتمان والتخفي عن الأنظار.

وقد جاء اكتشاف كتابه المواقف والمخاطبات على يد المستشرق آرثر جون أري سنة 1934، ليكشف عن كنز روحي ظل مخفيا قرونا طويلة. ويبدو أن غياب ذكر النفري في مصادر التصوف يرجع إلى أسباب عدة، من أهمها تأثير محنة الحلاج على جيل كامل من المتصوفة الذين اختاروا الصمت والكتمان، خوفا من الفقهاء الذين اعتادوا أن يطلقوا حملات التكفير والتفسيق ضد أهل الطريق ويحرضوا السلطات عليهم.

ثم إن النفري نفسه تبنى طريقا خاصا، يقوم على الغياب التام والابتعاد عن الظهور، كأنه أراد أن يبقى مجهولا ليبقى كلامه وحده حاضرا. ويرى البعض أن حفيده محمد بن عبد الجبار النفري هو من جمع هذه النصوص ورتبها بعد وفاة النفري.

يقوم فكر النفري على المواقف والمخاطبات. فالموقف عنده هو وقوف القلب بين يدي الله وانفصاله عن كل ما سواه، حتى يفنى عن الأكوان، ولا يبقى إلا وجه الواحد الأحد. يبدأ السالك بالموقف، فإذا صفا قلبه وتهيأ، جاءته المخاطبة، أي الخطاب الإلهي الذي يفتح له أبواب المعرفة واليقين.

ولهذا قدم النفري المواقف على المخاطبات، إيمانا منه بأن الوقوف بين يدي الله هو بداية الطريق. بلغ عدد المواقف التي دونت له 77 موقفا، أما المخاطبات فست. وهذه النصوص تحتل مكانة عظيمة بين فلاسفة التصوف، بل وحتى عند أهل الفكر عامة، لما تحمله من عمق روحي.

ولنقف قليلا عند بعض كلماته العميقة. ففي موقف الإسلام يقول النفري: "أوقفني في الإسلام وقال لي: هو ديني فلا تتبع سواه، فإني لا أقبل غيره. وقال لي: هو أن تسلم لي ما أحكمت لك وما أحكمت عليك". ثم يبين أن الإسلام ليس مجرد تقليد، بل هو تسليم كامل بلا معارضة، ولا جدال، ولا ابتداع. إنه أن يفنى إرادة العبد في إرادة الله، فلا يبقى إلا حكم الله وقوله.

"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"؛ عبارة قصيرة، لكنها تحمل عالما من المعاني. لا تزال هذه الكلمة تتردد منذ قرون، شاهدة على عبقرية رجل استثنائي في تاريخ التصوف والفكر.

وقد نالت هذه المقولة شهرة واسعة، لأنها تجسد بدقة لحظة عجز الإنسان عن التعبير أمام فيض الوجود وسر الحقيقة. لذلك وجد فيها الباحثون والفلاسفة نصا قائما بذاته، وأفرغوا أقلامهم في شرحها وتأويلها.

المعنى عميق وبسيط في الوقت نفسه: الرؤية الصوفية بلا حدود، تنفتح على أسرار الوجود اللامتناهية، بينما تظل اللغة قاصرة محددة، تحاول أن تمسك بما لا يمسك. فالكلمات ليست سوى ستار، والسر أوسع من أن يحتويه لفظ أو يحيط به خطاب.

على هذا النهج جاءت نصوص النفري: كلمات موجزة، لكنها مغلقة كالأسرار، لا تنفتح إلا أمام من جاهد قلبه وسعى في طريق المعرفة. وكأن النفري أراد أن يقول: إن كلماته ليست لكل أحد، بل هي لمن تهيأ لهم النور وانكشف لهم الحجاب.

ولعل أول من أدرك عمق النفري وأشار إلى مقامه كان الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، الذي أكثر من ذكره في كتبه الكبرى، مثل الفتوحات المكية. هناك وقف ابن عربي عند كتاب المواقف والمخاطبات، فرآه واحدا من أعظم نصوص الفكر الصوفي والفلسفي، حيث يلتقي الشهود الروحي مع العمق الفلسفي في لغة لا يشبهها شيء.

إنها لحظة الشهود الصوفي التي تنكشف فيها الأسرار لا بالعقل، بل بالذوق والمعاينة. ومن هنا يبرز أحد أعقد إشكالات التصوف: إشكال التبليغ. كثير من أهل الطريق كانوا يشتكون دائما من قصور العبارة عن حمل ما ذاقوه.

سعيدة مهير
سعيدة مهير