إنَّ للُّغة العربيَّة سِرًّا عجيبًا في كلمة "خيال"، فهي تدلُّ على الحركة والتغيّر والتلوّن.والقرآن الكريم لم يذكر كلمة "خيال" بلفظها، لكنه ذكر فعل "التخيّل"، وقد ورد ذلك في قصة سيدنا موسى عليه السلام حين واجه سَحَرة فرعون، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا حِبَالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحرِهِم أَنَّهَا تَسعَى﴾. كان ما رآه موسى خيالًا من صُنع السحر، لكنه لم يصمد أمام نور النبوّة. فعندما ألقى موسى عصاه ابتلعت كل ما صنعوا، فانكشف أن ما كان يُرى ليس إلّا وَهمًا لا حقيقة له.
أمّا الشيخ الأكبر
محيي الدين ابن عربي، فقد نظر إلى الخيال نظرة أوسع وأعمق. عنده الخيال ليس مجرّد
أوهام تمرّ في الذهن، بل هو عالم حقيقي بين الغيب والشهادة، إنّه جسر يصل ما بين
ما نراه في حياتنا وما هو غائب عن عيوننا.الخيال
عنده ليس هروبًا من الواقع، بل هو مرتبة وجودية تتشكّل فيها صور ومعانٍ لها نصيب
من الحقيقة. ولهذا قال في "فتوحاته":
"لولا
الخيال لكنا اليوم في عدم، ولا انقضى غرض فينا ولا وطر."
أي إنّ الخيال هو الذي يمنح حياتنا المعنى، وهو الذي
يفتح للإنسان أبواب المعرفة، ويجعل روحه تُسافر في رحاب الوجود. حين نتأمل كلمة
"خيال"، نجدها في ظاهرها مجرّد صور عابرة أو أوهام يراها الإنسان في
منامه أو في يقظته. أمّا عند الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، فإنّ الخيال ليس
أمرًا عابرًا ولا وهمًا يوقع الناس في الضلال، بل هو مرتبة عظيمة من مراتب الوجود،
وعالم كامل بذاته، جعله الله تعالى جسرًا بين عالم الغيب الذي لا تدركه الأبصار،
وعالم الشهادة الذي نعيشه وندركه بحواسنا. فالخيال عنده يشبه البرزخ: يقف بين شيئين، لا هو
من هذا تمامًا ولا من ذاك تمامًا، لكنه يأخذ من الاثنين معًا ليصنع عالمًا ثالثًا. ولهذا يقول ابن عربي: "لولا
الخيال لكنّا اليوم في عدم."
أي إنّ الخيال هو الذي يمنح للحياة معانيها، وهو
الذي يصوغ صور الأشياء في نفوسنا، فيجعلها قريبة من فهمنا، ويقرّب لنا الحقائق
العليا التي قد تعجز عقولنا عن إدراكها مباشرة. فالأنبياء رأوا في المنام رؤى صادقة كانت وحيًا،
والأولياء يشاهدون في الخيال صورًا ومعاني تفتح لهم أبواب الحكمة.
شاهد الفيديو
إنّ الخيال عند ابن عربي ليس وهمًا، بل هو قوّة
خلّاقة يتجلّى فيها العالم كلّه. فكما أنّ الدنيا دار صور وأشكال، فإنّ الخيال
أيضًا دار صور، لكن صوره أوسع وأعمق، فيها يلتقي الغيب بالشهادة، والروح بالجسد،
والمعقول بالمحسوس. ولهذا فالخيال عنده طريق
إلى المعرفة بالله، وطريق لفهم سرّ الإنسان والعالم. إنّنا حين نحلم أو نتخيّل،
نحن في الحقيقة نطرق باب هذا العالم الخفي الذي يسكن فينا وفي الكون من حولنا. الكلمات التي ننطقها:
كالنور، والبحر، والحب، ليست إلّا رموزًا لأسرار أعظم من حدود اللغة، وإشارات إلى
حقائق تفيض من عالم الغيب.
ومن هنا يذكّرنا ابن عربي أنّ الأحلام والرؤى التي
نزورها ليلًا ليست مجرّد أوهام أو لعب للعقل، بل رسائل خفية يبعثها الغيب إلى
أرواحنا. وأنّ الدين نفسه يكلّمنا
بلغة الصور والخيال: الجنّة بحدائقها، والنار بلظاها، والعرش بعلوّه، واللوح
المحفوظ بسرّه. كلّها رموز تقرّب المعاني الإلهية إلى قلوبنا المحدودة.
فالخيال عنده ليس زينة
ولا تسلية، بل هو لسان الحقيقة الذي يترجم الغيب إلى صور نستطيع أن نراها ونتأملها. ولذلك كان الفنّ والشعر
عند ابن عربي امتدادًا لعالم الخيال. فقَصائدُه في ترجمان
الأشواق لم تكن غزلًا أرضيًّا بامرأة، بل إشارات إلى جمال أسمى، حبّ
يتجاوز الجسد ليعانق المطلق.
والموسيقى، والألوان،
والزخارف، والأشكال، كلّها ليست سوى مرايا صغيرة تعكس شيئًا من نور الله وجماله
اللامتناهي. بل إنّ حياتنا اليومية كلّها تقوم على الخيال: في أحلامنا الصغيرة
التي تمنحنا الأمل، في خططنا التي نصنع بها المستقبل، في تصوّراتنا لما لم يأتِ
بعد.
فالخيال هو الذي يوجّه أفعالنا، وهو الذي يضيء
دروبنا، وهو الذي يجعل الإنسان يتجاوز حدوده الضيقة ليحيا في أفق أوسع. واليوم مع السينما،
والألعاب، والعوالم الافتراضية، نعيش بشكل أوضح تجربة الحياة في فضاء يتأرجح بين
الحقيقة والصورة. ولكن ابن عربي يضع لنا
تحذيرًا عميقًا: الصور والخيالات قد تكون جسرًا يقود إلى الحقيقة، وقد تتحوّل إلى
حجاب يحجبنا عنها. وحده الإنسان الكامل هو الذي يرى الصورة ولا يتوقّف عندها، بل
ينفذ منها إلى المعنى، ويجعل من الخيال طريقًا إلى الله، لا قيدًا يمنعه من الوصول.
فالخيال عند ابن عربي هو سرّ الوجود،
البرزخ العجيب الذي يذكّرنا أنّ هذا العالم ليس مادة فقط، بل معنى يتجلّى في صورة. ويبقى السؤال الذي يطرحه
علينا: هل سنكتفي برؤية الصور بعيوننا، أم سنفتح أعين البصيرة لنرى ما وراءها؟ هل
سنقف عند حدود الوهم، أم سنجعل من الخيال سُلَّمًا نرتقي به إلى الحقيقة؟
أيّها السائر في دروب
الحياة: لا تكتفِ بما تراه عيناك، فالعين محدودة والقلب أوسع. لا تجعل الصور
حجابًا يحجبك عن الحقيقة. تذكّر أنّ الخيال ليس لعبة
للذهن ولا ظلًّا باهتًا، بل هو مرآة تكشف ما لا يُدرك بالحواس.فإذا رأيتَ نورًا، أو سمعتَ لحنًا،
أو لامستَ جمالًا، فاعلم أنّها إشارات إلى بهاء أزلي يتجلّى لك في صورة. افتح بصيرتك، ودع الخيال
يقودك، لا إلى وَهم، بل إلى الحقيقة التي لا تزول. فهناك، خلف الحجب، يشرق النور
الذي لا ينطفئ: نور الحق، نور الله.