رحلتنا اليوم ليست رحلة عادية، بل هي رحلة في أعماق الروح نحو مقام عظيم، يسعى إليه كل سالك طريق الله: مقام السكينة. السكينة ليست مجرد كلمة أو شعور عابر، بل هي حالة روحية عميقة، نور يشرق في القلب، فيبدد الخوف والاضطراب، ويمنحك سلامًا داخليًا لا تهزه رياح الدنيا.
هي مقام الطمأنينة
والثبات، حيث يعيش القلب راضيًا بقضاء الله، وواثقًا برعايته. السكينة ليست
مفهومًا بشريًا صاغه الصوفيون وحدهم، بل هي قبل ذلك عطية إلهية، ذكرها الله في
كتابه الكريم أكثر من مرة. يقول الله تعالى: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب
المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم."
ويقول أيضًا:
"فأنزل الله سكينته على رسوله، وعلى المؤمنين." السكينة، إذًا، نفحة من
عند الله، يضعها في قلب من يشاء من عباده، لتكون له ثباتًا عند المحن، ونورًا عند
الظلمات، وأمانًا في لحظات الخوف.
وفي السنة، نجد إشارات
عديدة لهذه الحالة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وما اجتمع قوم في بيت
من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم
الرحمة."
شاهد الفيديو
فالسكينة هنا ليست
مجرد شعور بالراحة، بل هي حضور إلهي يطمئن القلوب ويغمر الأرواح. أهل التصوف
تحدثوا عن مقامات عديدة يسلكها العبد في طريقه إلى الله: مقام التوبة، مقام الصبر،
مقام الرضا، مقام التوكل. لكن السكينة ليست مقامًا عابرًا، بل هي حالة يرافقها
السالك بعد أن يقطع مراحل من المجاهدة.
فالذي تاب إلى الله،
وصدق في محبته، ورضي بقضائه، وتوكل عليه، يكرمه الله بأن ينزل على قلبه هذه
السكينة. ولهذا قال بعض العارفين: "إذا نزلت السكينة في القلب، سكن الاضطراب،
وهدأ الخوف، واطمأن العبد في حضرة مولاه."
كيف تعرف أنك قد وصلت
أو اقتربت من مقام السكينة؟ أولًا: هدوء القلب وسط العواصف. قد تواجه مشكلات
كبيرة، لكنك تجد قلبك مطمئنًا بالله. ثانيًا: الثبات النفسي، فلا تجعلك الدنيا في
قلق دائم، ولا تسيطر عليك المخاوف كما تسيطر على غيرك. ثالثًا: الإقبال على الله
بحب وخضوع، حيث تجد أن الصلاة والذكر ليست واجبًا ثقيلًا، بل هي راحة لروحك ودواء
لقلبك. رابعًا: الشعور بالقرب من الله في كل لحظة، حتى في أصعب الظروف، وكأنك تسمع
نداء داخليًا يهمس لك: "لا تخف، إنني معك."
السكينة عطية إلهية،
لكنها أيضًا ثمرة سلوك روحي صادق. فكيف يمكن للسالك أن يقترب منها؟ أول طريق هو
الذكر، ذكر الله بأسمائه الحسنى، وتكرار الأذكار التي تفتح أبواب القلب. ثاني طريق
هو التفكر، أن تجلس وتتأمل في السماء، في الجبال، في البحر، وفي نفسك؛ هذا التفكر
يذكرك بقدرة الله، ويمنح قلبك يقينًا وطمأنينة. ثالث طريق هو ترك التعلق بالدنيا،
فالسكينة لا تنزل على قلب مشغول بالمال، والشهوات، والهموم. كلما تخففت من أثقال
الدنيا، اقتربت من السلام الداخلي. رابع طريق هو الصبر والرضا، عندما تتعلم أن
تقول: "رضيت بما قسم الله لي"، حينها يتذوق قلبك معنى السكينة. خامس
طريق هو المداومة على الصلاة والعبادات القلبية، فالصلاة ليست مجرد حركات، بل لقاء
مع الله. فإذا أدّيتها بحضور، شعرت أن السكينة تنزل على روحك.
لكي نقترب أكثر من
المعنى، دعونا نذكر بعض القصص من حياة الأولياء. يحكى عن الإمام الجنيد أنه كان
يقول: "السكينة روح من الله، إذا نزلت في القلب ارتاح من هموم الدنيا."
ويروى أن بعض العارفين كانوا في السجن أو تحت التعذيب، ومع ذلك كانوا يقولون:
"لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة السكينة، لجلدونا عليها
بالسيوف." هذه ليست مبالغة، بل حقيقة عاشها من ذاق هذا المقام.
أيها الأحبة، السكينة
ليست بعيدة، وليست حكراً على الأولياء الكبار، بل هي قريبة من كل قلب صادق يبحث عن
الله بصدق. هي ثمرة الذكر، ونتيجة الصبر، وهبة من الله لمن فتح قلبه. فلنحرص أن
نكون من أهلها، حتى نعيش في الدنيا بسلام، ونلقى الله بقلوب مطمئنة.
أبو يزيد البسطامي يرى
أن السكينة حالة من الثبات الدائم، فقال: "من ذاق السكينة لم يضره اختلاف
الليل والنهار، لأنه في مقام الشهود الدائم." فالسكينة عنده ليست ظرفًا
محدودًا بالزمن، بل نور يلازم العبد في جميع أحواله. ويقول الحارث المحاسبي:
"السكينة عطية، إذا نزلت في القلب، جمعته على الله، فلا يلتفت إلى
غيره." فهي هبة ربانية تنزل على القلب، فتجمع شتاته، وتربطه بواحد لا شريك له.
ومن أقوال ابن عطاء
الله السكندري: "متى أشرق نور اليقين في قلبك، آنست بالله واستوحشت مما سواه؛
فهناك تنزل السكينة. فحين يتذوق العبد طعم اليقين، يأنس بالحق، وتغمره السكينة
التي تملأ فراغ روحه."
أما ابن عربي، فقد عبر
عنها بقوله: "السكينة هي روح الله التي يسكن بها القلوب، فتطمئن لمعرفه الحق،
وتستريح من تعب البحث." فالسكينة عنده مقام يقيني، فيها يستريح السالك من قلق
السؤال وتعب الطريق، ليغدو في حضرة الطمأنينة الكبرى.
الإمام علي بن أبي
طالب، كرم الله وجهه، رأى: "من وجد الله أنس به قلبه، وسكنت إليه نفسه."
وهذه إشارة إلى أن السكينة ثمرة معرفة الله، والقرب منه.
الحسن البصري يقول:
"السكينة رحمة من الله، إذا أنزلها في القلب استراح، وإن نزعت اضطرّ."
ويبين أن السكينة عطية إلهية، تنزل الطمأنينة وتذهب القلق.
الشيخ عبد القادر
الجيلاني رأى أن القلب إذا امتلأ بالسكينة صار كالمرآة، تنعكس فيه أنوار الحق بلا
كدر، ويرى أن الصفاء يجعل القلب قابلاً للتجلي. ويرى أيضًا الإمام الغزالي:
"السكينة حالة من أحوال العارف، ينزلها الله عند الاضطراب، فتكون له تثبيتًا
في السير."
بهذه الأقوال، يتضح أن
السكينة التقت فيها أصوات المتصوفة والعلماء: نور، رحمة، طمأنينة، ويقين.