أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

ابن عربي: سرّ الحب والجمال والجلال في التصوف الإسلامي

ابن عربي: سرّ الحب والجمال والجلال في التصوف الإسلامي

هل رأيتَ يومًا وجهًا جميلا، فشعرتَ أن في ملامحه سرًّا يتجاوز الوصف؟هل مرّت بك لحظة نظرتَ فيها إلى زهرةٍ، سماءٍ، إنسانٍ، فاهتز قلبك بشيءٍ لا تعرف له اسمًا؟

 ابن عربي، شيخ العارفين، يرى أن هذا الانجذاب ليس صدفةً ولا وهمًا، بل هو نداءٌ من الله عبر الجمال. ففي نظره، كل جمالٍ في هذا العالم هو مرآة تعكس وجه الحق، ومن أحبّ الجمال فقد أحبّ الله، وإن لم ينطق بذلك. سنغوص مع ابن عربي في معنى الجمال: كيف رآه؟ ولماذا جعله طريقًا إلى الله؟

لكن ما هذا الجمال الذي يتحدث عنه ابن عربي؟ هل هو جمال الشكل، الملامح، الألوان؟ أم أن الجمال عنده أعمق بكثير من أن يُرى بالعين؟ ابن عربي لم يكن ينظر إلى العالم كما ننظر إليه نحن. كان يرى في كل شيء تجلّيًا، وفي كل وجه إشراقة، وفي كل لحظة نداءً خفيًّا من الحق.

فلنقترب أكثر من فكره، ونكتشف كيف تحوّل الجمال في نظره من وصفٍ خارجي إلى بابٍ للوصول إلى الله. إن ابن عربي يرى أن من أحبّ الجمال في هذا العالم فقد أحبّ الله من حيث لا يشعر، لأن جمال العالم هو انعكاس لجمال الله. فالحقّ تعالى تجلّى في كل شيء، وظهر في كل كائن بقدر ما يحتمل من الجمال والكمال. ومن هنا يرى ابن عربي أن الحق تجلّى في صور الخلق، فصار كل موجود مرآة تُظهر جماله. ومن أدرك هذا السر لم يعد يفرّق بين صورة وصورة، بل يرى المحبوب الإلهي متجلّيًا في كل شيء. ولهذا يقول: "من أحبّ الجمال فقد أحبّ الله". فجمال الإنسان، وجمال الكون، وجمال الفكرة، كلها مظاهر لأسماء الله الحسنى.

1

والإنسان الكامل في نظره هو صورة جامعة للأسماء الإلهية، فهو مظهر الجمال والكمال معًا. وليس في الوجود شيء أحقّ باسم الجمال الإلهي من الإنسان الكامل، لأنه تجمّعت فيه صفات الجلال والبهاء. ومن هنا، من رأى جمال العالم بعين القلب، فإنما يرى إشراقة الحق فيه، ويرى الله في كل شيء، لا كتَشبيه، بل كتجلٍّفالعاشق الصوفي لا يحبّ الشكل لذاته، بل يُفتن بسرّ الجمال المتجلّي من خلاله.لكن، هل يجمع الله في صفاته بين الجلال المرهِب والجمال المؤنس في آنٍ واحد؟ وكيف نفهم توازن القدرة والقهر مع اللطف والرحمة؟

هذه الأسئلة حيّرت العقول طويلا. لكن عند ابن عربي نجد جوابًا مختلفًا، عميقًا، ومليئًا بالإشارات الروحية. يكثر الناس من الحديث عن معنى الجلال والجمال، وعن العلاقة بينهما، رغم ما يبدو من تضاد على الظاهر. فالجلال هو مظهر القوة والقهر والهيبة، بينما الجمال هو مظهر اللطف والرحمة. وكأنهما ضدّان!

لكن في الحقيقة يجتمعان في حضرة الله. فالإنسان العاشق لله كما يقول ابن عربي لا يرى بينهما تناقضًا. فهو يرى في محبوبه الجلال والجمال معًا. بل إن ابن عربيًا يعترف أنه لم يذق في نفسه القهر الإلهي يومًا، ولا وجد في قلبه أثرًا لحضرة الجلال القاهر، وإنما غلب عليه مقام الأنس والمحبة.

وفي "فصّ آدم" يشرح ابن عربي هذا المعنى بعبارة رائعة، فيقول:
إن الله وصف نفسه بأنه ظاهر وباطن، فأوجد لنا عالم الشهادة وعالم الغيب، لندرك الباطن بقلوبنا والظاهر بحواسناووصف نفسه أيضًا بأنه راضٍ وغاضب، فصار العالم قائمًا على الخوف والرجاء: نخاف غضبه ونرجو رضاه. ثم وصف نفسه بأنه جميل وذو جلال، فجعل فينا شعورًا مزدوجًا: هيبة أمام عظمته، وأنسًا برحمته.

ويرى ابن عربي أن التجلي الإلهي للبشر لا يكون في صفة الجلال المحض، لأن الجلال الخالص لا يطيقه أحد.بل إن الله يتجلّى لعباده دائمًا في جلالٍ ممزوجٍ بالجمال، فيشهد العارفون في مظاهر الكون مزيجًا من القهر الإلهي والرحمة الإلهية. فيدركون أن الله وحده هو الذي يجمع بين الهيبة والأنس، وبين القوة واللطف في آنٍ واحد.

ولدى ابن عربي يقوم الحب على سببين رئيسيين: الجمال والإحسانفأما الجمال، فهو نابع من حكم اسم الله "الجميل" الذي وصف به نفسه، والذي تجلّى في خلقه العالم على صورته، فصار العالم بذلك انعكاسًا لجمال الله. والجمال في هذا السياق محبوب لذاته، فهو يثير في القلب العاطفة، ويغري النفس بالانجذاب إليه، لأنه يعبر عن صفة إلهية سامية.

أما السبب الثاني، فهو الإحسان، أي حبّ العباد لإحسان الله. يقول ابن عربي: "وما ثمّ إحسان إلا من الله، ولا محسن إلا الله. فإن أحببت الإحسان، فما أحببتَ إلا الله، فإنه هو المحسن. وإن أحببتَ الجمال، فما أحببتَ إلا الله تعالى، فإنه هو الجميل". فالإحسان هنا ليس مجرد صفة معنوية، بل هو مقام روحي يختبر فيه العبد حضور الله في قلبه، ويشعر بحُسن تصرّفه وتفانيه في طاعته.
وبذلك يكون الحب موجّهًا إلى الله وحده.ويصل التصوف في هذا السياق إلى تحقيق مقام الإحسان كما جاء في الحديث الشريف: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فالإحسان هو المستوى الذي يتجاوز الإيمان الغيبي الاعتقادي، ليصبح الإيمان عند العارف إيمانَ شهودٍ، وتحقيقًا لمبدأ "كأنك تراه".
حيث يشعر القلب بحضور الله في كل فعل وكل شعور، ويصبح الحب تجربةً روحية متكاملة، تتحد فيها الجمال والرحمة الإلهية مع إدراك الخالق في تفاصيل الكونوينسب ابن العربي للحقيقة الإلهية المسماة "الحب" السببَ في وجود العالم وإظهاره. ويستند إلى ذلك في تأسيس فلسفته العميقة في الحب، مستشهدًا بالحديث القدسي: "كنتُ كنزًا مخفيًا فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ الخلق، فتعرّفتُ إليهم، فعرفوني". عند ابن عربي، الحب لا ينفصل عن الجمال، بل الجمال هو الشرارة الأولى التي توقظ الحب في القلب.لكن الحب عنده لا يقف عند الجمال الظاهر فقط، بل يتجاوزه إلى الإحسان: أي أن يحبّ العبد ربّه لما يغمره به من رحمة وعطاء ولطف.

فالله هو "المحسن"، وبهذا يصبح الحب عند ابن عربي طريقًا صوفيًا، يجمع بين الانبهار بالجمال الإلهي وبين الشكر لإحسان الله. ومن هنا، يرتقي العارف من مجرد الإيمان الغيبي إلى مقام الإحسان. فالجمال هو أصل الحب ومصدره، وهكذا يصبح الحب عند العارفين طريقًا صوفيًا يذوب فيه القلب بين سطوع الجمال الإلهي وفيض الإحسان الرباني.

سعيدة مهير
سعيدة مهير