يتملك الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي قدرة فريدة على إحداث عدة تحولات فكريةوروحيةعميقة،وتعد كتاباته مرجعًا أساسيا لكل من يسعى لفهم الفكر الصوفي ووحدة الوجود. من أشهر أعماله "الفتوحات المكية"، هذا العمل موسوعة صوفية وفلسفية، مزج فيه بين الشعر والنثر، ويضم بين ضفتيه ما يقارب 560 بابا، إلى جانب ذلك، يعتبر ديوانه الشعري " ترجمان الأشواق" من أبرز المؤلفات أيضا، حيث يتمحور حول الحب الإلهي باعتباره جوهر الرحلة الروحية إلى الله. يتناول في قصائده مفاهيم العشق الإلهي، التفاني، الصدق، والإخلاص في السعي إلى معرفة الحقيقة.
يعبر الكبريت الأحمر عن تجاربه الشخصية ويستخدم بعض الرموز في التعبير عن مشاعره وتجلياته الروحية، كما يتفاعل مع العالم من حوله. هذه الرموز التي يوظفها ابن عربي تتطلب تأمل عميق وإدراك روحي من أجل فهم فحواها. يتميز "ترجمان الأشواق" بأسلوب شعري فريد يجمع بين العاطفة الصوفية والتأمل الصوفي، لقد ورد اسم "النظام "، التي لقبها ابن عربي "بعين الشمس والبها"، في إشارة إلى جمالها الفائق وبلاغتها الأدبية. فهي شاعرة وأديبة فصيحة، يفصح ابن عربي عن مشاعره العميقة لها؛ ويصورها لنا كرمز للجمال الروحي والحب الإلهي في فلسفته، حيث تجاوز حبها المعنى الحسي ليصبح تجليًّا للعشق الإلهي.
يصنف العرفان الأكبري ابن عربي الحب إلى ثلاثة أنواع: الحب طبيعي: المقصود به الحب القائم على العاطفة البشرية، والحب الروحاني: وهو الحب الذي يتجاوز الماديات ويتجه نحو المعاني الروحية، أخيراً الحب الإلهي: وهو أعلى مراتب الحب، حيث يذوب العاشق في محبوبه الإلهي، متجاوزًا حدود الذات الفردية. هذه الأنواع الثلاثة تمثل لنا جوهر الرؤية الصوفية عند ابن عربي، حيث يصبح الحب وسيلة للترقي الروحي والاتحاد بالحقيقة الإلهية.
يرى ابن عربي أن الحب الإلهي هو أصل الوجود، هو حب الخالق لمخلوقاته، كما جاء في ’النظرية الكنزية‘ قول الحق: " أحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرفهم بنفسي". فإيجاد الكون كان بدافع الحب الإلهي. أما الحب الروحاني، فهو حب الخلف لخالقه، حب خالص منزه عن كل طلب وغاية وهدف أو مكافأة، حيث يسعى المحب فيه إلى القرب من الله. وعلى العكس من ذلك، فإن الحب الطبيعي يسعى فيه العاشق إلى تحقيق رغباته، حيث يكون حبا أنانيا يعكس تعلق الإنسان بذاته. يختصر الشيخ الأكبر هذه الأنواع الثلاثة للحب بقوله: "المحب الإلهي روح بلا جسم، والمحب الطبيعي جسم بلا روح، والمحب الروحاني جسم وروح".
هذا يعني أن الحب هو روح التصوف كما متجرد بشكل كامل عن المادة، في حين أن الحب الطبيعي مقيد بالجسد ورغباته، أما الحب الروحاني فهو توازن بين الروح والجسد، حيث يسمو العاشق بمحبته عن المادة لكنه لا ينكر وجودها. لقد بين لنا البحر الزاخر في ديوانه "ترجمان الأشواق"، العلاقة بين الحب الحسي (الترابي) والحب المتعالي (الإلهي).
" لا تصرف وجهك عن الحب الترابي
مادام الحب التراب سيرفعك إلى الحق"
يشرع قطب الصوفية الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، في تأويل وشرح عميق للحديث النبوي الذي ذكر فيه حب النساء: "حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرتي عيني في الصلاة". يرى ابن عربي أن تقديم النبي محمد عليه الصلاة والسلام ذكر النساء على الصلاة ليست تفضيلاً للنساء على الصلاة، فمحبة النساء ليست عائقاً بين العبد وربه، بل هي طريق للمعرفة الإلهية. طبعا لم يحب شيء قد يبعده عن ربه، بل هي طريق للمعرفة الإلهية. فقد حبب إليه ما يقربه من حضرة الحق. لذلك يعتبر الكبريت الأحمر بأن حب النساء ميراث نبوي وحب إلهي. فقد أكد ابن عربي بأن حب النساء، ليس منفصلاً عن الحب الإلهي، لأنه أثر من آثار الحب الإلهي، إذ أن المحبة في صورها المختلفة تقود في النهاية إلى العشق المطلق. ومن هذا المنطلق، لم يكن حب ابن عربي للنساء مجرد ميل طبيعي، بل كان محبة لكل البشر، باعتبارهم تجليات للحقيقة الإلهية، فهو القائل:
أدين بدين الحب أني توجهت
ركائبه، فالجب ديني وإيماني
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة
فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائفٍ
وألواح توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
مما يعني أن الحب في نظر العرفان الأكبري، ليس مجرد عاطفة، بل حالة روحية تقود الإنسان إلى الحق، لأن كل حب في هذا العالم ما هو إلا ظل للحب المطلق يُظهر لنا ابن عربي من خلال هذه الأبيات أن الحب يتجاوز كل التصنيفات الدينية، فهو جوهر الحقيقة الإلهية، والرابط الذي يوحد البشرية جمعاء. حيث يصبح قلب العارف فضاء يتسع لكل الصور الدينية، من الرهبانية إلى الطواف حول الكعبة، ومن التوراة إلى القرآن.هذه الأبيات تعكس لنا فلسفته في وحدة الوجود، هذا التنوع والتعددية الدينية ما هي إلا مظهر من مظاهر وحدة الحقيقة أي الحقيقة الإلهية. فالحب في نظره هو الدين الذي يضم جميع أشكال الديانات، يحثنا ابن عربي على التسامح الديني؛ حيث لا ينبغي أن تكون الاختلافات الدينية سببا للفرقة، بل ينبغي أن يكون هناك تعايش بين الأديان مع بعضها البعض، وعلى القلب أن يقبل التعددية الدينية.
يُعدّ الحب في فلسفة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي هو القوة التي ينبغي أن تجمع بين الإنسان والخالق، كما أنه الأساس الذي يقوم عليه الوجود. إن الأبيات التي ذكرتها أعلاه، تعد من أعمق التعبيرات عن الحب الإلهي في التصوف الإسلامي، لأنها تحمل رسالة سامية وشمولية تدعو إلى احترام التعددية الدينية، وفهم العالم على أساس أنه كل متجانس تتجلى فيه صفات الحق. فالوجود ما هو إلا مظهر للأسماء الإلهية المتعددة. يعتبر ابن عربي الدين الحقيقي هو المحبة فهو القائل: " القلب الذي يعرف الحب لا يموت أبداً".
إن للحب القدرة على الجمع بين كل المتناقضات ويوحد بين الأضداد، فيه تنصهر وتذوب الاختلافات، إنه القوة الإلهية التي تُفضي إلى جعل العالم يتفاعل ويتطور، هو حالة من السلام الداخلي والانسجام بين الإنسان وخالقه، بين الذات والغير الذي يُشبهني ويختلف عني؛ به نتجاوز هذا الانقسام الحاصل بين الأديان والمذاهب لأن الكون بجملته عبارة عن حالة حب، فالحب عند الشيخ الأكبر ليس حالة إنسانية فقط، بل حالة كونية، دين عالمي. لمحيي الدين ابن عربي مقولات في الحب، وردت في رسالته ’ما لا يعول عليه‘ منها قوله:" كل محبة لا يؤثر صاحبها إرادة محبوبه لا يعول عليها"، فحوى هذه العبارة هو أن الحب الصادق والحقيقي هو الحب الذي يقدم المحب إرادة محبوبه، لأن من علامات الحب الطاعة والإتباع { قل إن كنت تحبون الله فاتبعوني يحببكم اللّه}، حيث تُقدم رغبات المحبوب ورضاه على رغباته وإرادته أي التضحية في الحب.
في التصوف الإسلامي المحبة مرتبطة بالله عز وجل. لذلك على السالك أو المحب أن يسعى لإرضاء الله، وغير هذا يعد محبة يعتريها النقصان؛ غير مكتملة. أيضا من أجمل المقولات في الحب قول الكبريت الأحمر ما يلي: " كل حب يكون معه طلب لا يعول عليه". هذه العبارة تعكس عمق الحب في التصوف الأكبري، لأنه إذا كان المحب يحب محبوبه، من أجل الحصول على شيء ما؛ فإنه ليس بحب لا يوجد فيه إخلاص، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه أو أن تعول عليه، لماذا؟ لأن في الطلب أنانية ومصلحة، يظل حبا مرتبط بتحقيق رغبات معينة مما يعني أنه حب مشروط. لأن الحب الصوفي الذي هو حب خالص لله، لا يسعى من خلاله إلى تحقيق منافع دنيوية أو أخروية، لا يرغب حتى في الجنة كما عبرت عند ذلك إمامة العارفين وشهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية. عبادته سبحانه ليس خوفاً من النار أيضا، بل محبة فيه، أيضا هذا الحب نجده عند الحلاج الذي توضأ بدمه لحظة إعدامه وقال بأن ركعتان في العشق لا يجوز وضوءهما إلا بالدم!.
وبالتالي البحر الزاخر الذي يُعوّل عليه هو الحب الغير مشروط أي أن يتجرد الحب من أي طلبات ومصالح. كذلك من أجمل العبارات التي قالها إمام العارفين:" كل شهوة غير شهوة الحب لا يعول عليها"، تشير الشهوة إلى الرغبة والميل لشيء ما، ابن عربي لا يقصد معناها الحسي والمادي مثل الطعام والمال والجسد؛ هنا الشيخ الأكبري يضع شهوة الحب فوق كل الشهوات، يؤكد على الميل العميق الذي ينبغي أن يكون لله، حيث السير إلى الحقائق الروحية العليا، فالشهوات المادية، الدنيوية، زائلة ومؤقتة لا تساعدنا في الوصول إلى الحقيقة الروحية وتأخذ منا السعادة الحقيقية. وبالتالي لا شهوة غير شهوة الحب النقية. في نظره، الحب الإلهي هو الحب الذي يمكن أن نعول عليه.
نضيف أيضا إحدى العبارات الخالدة للشيخ الأكبري:" المحبة إذا لم تكن جامعة لا يعول عليها"، هنا يُشير الكبريت الأحمر إلى الحب الكامل والشامل؛ أي ذاك الحب الذي يجمع بين كل جوانب الوجود، أي المحبة الإنسانية والإلهية والوجود بشكل عام. لماذا؟ لأن عدم جمعية الحب تعني بأنه مقتصر على جانب واحد قد يكون حب مادي وعاطفي وبالتالي هو حب ناقص لا يعول عليه؛ فجمعية الحب هي الحقيقة التي يسعى إليها ابن عربي في فلسفته الصوفية.
نضيف أيضا عبارات أخرى وتشترك تقريبا في نفس المعنى من ذلك: "كل محبة لا يلتذ صاحبها بموافقة محبوبه فيما يكرهه في نفسه طبعا لا يعول عليها"، " كل حب يعرف سببه فيكون من الأسباب التي تنقطع لا يعول عليها"، " كل حب لا يتعلق بنفسه وهو المسمى حب الحب لا يعول عليه"، "كل حب لا يفنيك عنك ولا يتغير بتغير التجلي لا يعول عليه"، " كل حب تبقى في صاحبه فضلة طبيعية لا يعول عليه"...
نستنتج أن الحب في تفكير البحر الزاخر محيي الدين ابن عربي من أبرز المفاهيم في فلسفته الصوفية، حيث اعتبره أساس الوجود بل جوهر العلاقة التي تجمع بين الخالق والمخلوق، فالله خلق العالم بدافع الحب" أحببت أن أعرف" لكي يُعرف وأيضا لكي يُحب من قبل مخلوقاته. كل ما يوجد في الكون هو تجل للوجود الإلهي ولأسمائه الحسنى، يؤكد ابن عربي على أن الحب هو الطريق الأجمل والأسمى للوصول إلى حب الله، ويعتبره حالة شاملة وكونية.