يعد الإمام علي بن أبي طالب من أوائل الذين أشاروا إلى مرتبة الإنسان الكامل في الإسلام. وإن لم يستعمل مصطلح "الإنسان الكامل" حرفيًا، فقد تناول مدلوله وروحه ببلاغة فائقة في أقواله وأشعاره. فقد وصف الإنسان بالكتاب المبين الذي يكشف ما في الضمير، مشيرًا بذلك إلى قدرة الإنسان على جمع حقائق المعاني الكونية والإلهية.
يقول الإمام
علي: "دواؤك فيك، وما تبصر وداؤك منك، وما تشعر." أتزعم أنك جرم صغير،
وفيك أن طوى العالم الأكبر؟ فانت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر وما حاجتك
لك من خارج، وفكرك فيك وما تصدر.
وفي هذه
الأبيات يشير الإمام علي إلى جمع حقائق العالم الأكبر في داخله، وهو ما يتوافق مع
ما عبر عنه العارفون الصوفيون في القرون اللاحقة، بأن الإنسان الكامل هو المخلوق
الجامع لكل الحقائق الإلهية والكونية، والمظهر الأسمى للكمال البشري.
شاهد الفيديو
في تاريخ
الفكر الإنساني، ظل السؤال عن الكمال البشري أحد أعقد الأسئلة وأكثرها إلحاحًا:
كيف يمكن للإنسان أن يبلغ ذروة كماله الأخلاقي والروحي؟ وهل هذا الكمال متاح لكل
إنسان، أم هو مقام نادر لا يبلغه إلا القليلون؟
في التراث الصوفي،
برز مفهوم الإنسان الكامل كأحد أعظم المفاتيح لفهم الغاية من وجود الإنسان في هذا
العالم. تشير كلمة "الإنسان" إلى المخلوق العاقل المكلف، بينما يدل لفظ
"الكامل" على التمام والخلو من النقص. وعليه، فإن الإنسان الكامل هو
الإنسان الذي تحقق فيه أسمى مراتب الكمال الممكنة للمخلوق، سواء في بعده الخلقي،
أو العلمي، أو الروحي.
في النصوص
الإسلامية الأولى نجد إشارات واضحة لهذا المفهوم. القرآن الكريم يذكر أن الإنسان
خُلق في أحسن تقويم، أي أنه وضع في أفضل هيئة ليكون قادرًا على التعلم والنمو
والسعي نحو الكمال، ويؤكد أيضًا على تكريمه بمنحه مسؤولية عظيمة وهي خلافة الأرض
وحمل الأمانة ليكون مرآة للحق والخير في العالم.
أما السنة
النبوية، فهي تقدم لنا مثالًا حيًا للإنسان الكامل في شخصية النبي محمد ﷺ، الذي
جمع في خلقه وأخلاقه أسمى الفضائل: الصدق، الأمانة، الرحمة، الحكمة، والتواضع. كان
عليه السلام نموذجًا يُحتذى به لكل من يسعى للوصول إلى الكمال الأخلاقي والروحي.
وهكذا يصبح
مفهوم الإنسان الكامل أكثر من فكرة نظرية، إنه دعوة عملية للحياة، للسعي نحو السمو
الأخلاقي والروحي، إنه نموذج مستمر للإلهام، ومفتاح لفهم الغاية الأسمى من وجود
الإنسان، ومصدر دائم للارتقاء بالذات والإنسانية.
جمعاء قبل
ظهور التصوف الإسلامي، كان للفلسفة اليونانية والعربية الإسلامية تصورات للكمال
الإنساني. فَأفلاطون تحدث عن الإنسان الفاضل الذي ينسجم عقله ونفسه وجسده في توازن
تام، وأرسطو ربط الكمال بتحقيق الفضيلة العليا عبر التأمل، أما الفارابي فقد قدم
صورة المدينة الفاضلة التي يقودها إنسان مثالي يجمع الحكمة والشجاعة والعدالة.
تخيلوا معي،
هل الإنسان مجرد جسد من لحم ودم يأكل ويشرب ويمشي في الأرض، أم أن بداخله سرًّا
أكبر، سرًّا يجعله مرآة للكون كله؟ ابن عربي، الفيلسوف والمتصوف الأندلسي العظيم،
كان يرى أن هناك مرتبة خاصة من البشر يسميها الإنسان الكامل. لكن انتبه، الإنسان
الكامل عنده ليس مجرد شخص صالح أو زاهد، بل هو الكائن الذي جمع في نفسه صورة
العالم وصورة الحق معًا. كيف ذلك؟ ابن عربي يشرح أن الله خلق الإنسان على صورته،
فجمع فيه صفاته وأسماؤه: الرحمة، العلم، العدل، القدرة… كل هذه المعاني الإلهية
موجودة في الإنسان، لكنها تنتظر أن تُكتشف وتُفعَّل.
الإنسان
الكامل هو الذي يعكس هذه الصفات في حياته، فيصبح مثل النور الذي يكشف الظلام، ومثل
القلب الذي يضخ الحياة في جسد الكون. ولهذا يقول ابن عربي: "العالم كله يدور
حول هذا الإنسان، لأنه الرابط بين الخالق والمخلوق، بين الغيب والشهادة."
ويشبه الأمر هكذا: العالم هو إنسان كبير، والإنسان هو عالم صغير، فيه كل ما في
الكون من المعادن والنبات والحيوان، وحتى أسرار السماء والأرض.
أعلى مثال
للإنسان الكامل عند ابن عربي هو النبي محمد ﷺ، لأنه جمع كمال الصفات الإنسانية
والإلهية في شخصه، فكان رحمةً للعالمين. لكن، هل هذا المقام خاص بالأنبياء فقط؟
ابن عربي يقول: لا، الباب مفتوح لكل من أراد.
كيف نصل إليه؟ بالصدق في البحث عن الله، وترك الأنانية، وتطهير القلب من الغفلة، ورؤية الله في كل ما حولنا. إنها رحلة وعي لا تُقاس بالمسافة، بل بالتحول الداخلي. وفي النهاية، يلخص ابن عربي الأمر كله بجملة واحدة: "اعرف نفسك… تعرف ربك."