في
رحلة التصوف، هناك أسماء تُلهب القلوب، وحديثنا اليوم عن أحدهم، عن أجمل شخصية
في تاريخ التصوف الإسلامي، بل ربما عن أجمل شاعر صوفي في تاريخنا كله. إنه سلطان
العاشقين، شاعر الحب الإلهي، العارف بالله عمر بن الفارض. ولد ابن الفارض، الذي يُلقَّب بسلطان العاشقين، في مصر، بعدما
انتقل إليها والده من بلاد الشام. وكان والده
رجلاً صالحاً زاهداً في الدنيا، حتى إنه رفض أن يتولى منصبًا كبيرًا في الدولة،
وهو منصب قاضي القضاة. فتأثر ابن الفارض منذ صغره بهذا
الزهد، وبدأت ملامح التدين والعشق الإلهي تظهر في قلبه مبكرًا.
ولعل هذا
المثال الحي من والده كان أول درس في الزهد والمعرفة، فنما قلب ابن الفارض على
محبة الله والرغبة في القرب منه. وقد عُرف بحبه للعزلة والتأمل، فبعد أن زار مكة
المكرمة وأدى الحج، قرر أن يعتزل الناس. فانطلق إلى وادٍ بعيد عاش فيه وحده
حوالي 15 سنة، يتفكر في
نفسه، ويتأمل أسرار الكون، ويتغذى قلبه على معاني القرب من الله. تلك العزلة لم تكن فراراً من الحياة، بل كانت باباً فُتح له على
المعارف والعشق، ومنها خرجت أجمل قصائده المليئة بالحب الإلهي والتأمل في جمال
الخالق.
وعندما عاد
إلى مصر، عاد بروح ممتلئة ولسانٍ يقطر بالحكمة والمعاني. فعاش فيها بقية حياته
يعلم ويكتب ويبوح بأسرار القلب في أبيات خالدة جعلته واحدًا من أعظم شعراء التصوف
في التاريخ. كان ابن الفارض منذ صغره
يُؤْثر العزلة على الجلوس في الأسواق، وكان يبتعد عن ضوضاء الناس ليجلس في المساجد
المهجورة أو يصعد إلى كهوف جبل المقطم في القاهرة. وفي إحدى الروايات، يقال
إنه رأى رجلاً بسيطًا يُلقب بـ"البقال"، وكان هذا الرجل يتوضأ وضوء غير
مرتب، فنبهه ابن الفارض، لكن الرجل التفت إليه وقال: "يا عمر، لن
يُفتح لك في مصر، بل سيفتح لك في الحجاز." كانت هذه الكلمات أشبه برسالة إلهية، فآمن بها ابن الفارض، وغاب عن
الأنظار ما يقارب 15 سنة قضاها في
وديان مكة وجبالها يناجي الله ويتأمل في آياته.
عاش ابن
الفارض في زمن عظيم، عاصر فيه شخصيات تاريخية كبيرة مثل جلال الدين الرومي،
والسهروردي، وفريد الدين العطار، وكان مقرباً من كمال الدين
الأيوبي، أخ القائد الشهير صلاح الدين الأيوبي. ورغم ذلك، ظل
متميزاً بحبه لله وذوبانه الكامل في العشق الإلهي.
خلف ابن
الفارض ديوانًا واحدًا يضم ما يقرب من 1800 بيت شعري، كلها تنطق
بالعشق والشوق والتوحيد. وأشهر ما في هذا الديوان قصيدته العظيمة "نظم السلوك"،
أو ما تُعرف بـ التائية الكبرى، لأن كل أبياتها تنتهي بحرف التاء، وتضم
أكثر من 750 بيتًا.تناقل
المتصوفة هذه القصيدة عبر القرون، وتأثر بها شعراء وعلماء كُثر، حتى إن جلال
الدين الرومي أعجب بها إعجابًا شديدًا. وقد تعرض ابن الفارض مثل غيره من أعلام
التصوف إلى اتهامات بالزندقة، لكنه لم يُجادل، بل قال: "
دعوا قلبي يفصح، ودعوا شعري يشهد."ومن أبرز من
دافع عنه الإمام جلال الدين السيوطي، في كتابه "قمع المعارض
في نصرة ابن الفارض". ويقال أيضًا
إن ابن الفارض التقى بـ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، ودار بينهما حوار
لطيف حول شرح التائية والفتوحات
في عالم
التصوف، قد تتجلى ملامح العشق السماوي في قصة أرضية رقيقة. يُقال - والله أعلم -
إن ابن الفارض قد أحب فتاة جميلة تسكن بالجوار، لكنه لم يُفصح عن عشقه. ومع مرور
الأيام، مرض مرضًا شديدًا، وأفضى بسره إلى أمه، التي ذهبت إلى الفتاة ترجُوها
زيارته.وعندما جاءت، انفجرت مشاعره شعراً
وقال:
أُخفي الهوى
ومدامعي تُبديه
وأُميتُه وصبابتي تُحييه
ومعذّبي حلوُ
الشمائلِ أهيفٌ
قد جَمَعَت كلَّ المحاسنِ فيه
وتقدمَت نحوه
تحمل شمعة، فسال شمعها على وجهه وأحرقه، فلم يصرخ، بل أنشد:
يا حارقًا
بالنار وجهَ مُحبّهٍ
مهلاً فإنّ
مدامعي تُطفئه
أحرِقْ بها
جسدي وكلّ جوارحي
واحنُ على قلبي فإنك فيه
علمنا ابن
الفارض أن العشق عند الصوفية هو سرّ الحياة، وأنه جسرٌ إلى الله.
وفي زمنٍ كثر فيه الجفاف الروحي، تذكّرنا قصائده بأن
القلوب خُلقت لتشتاق إلى الله. وهو القائل:
زدني بفرطِ
الحبّ فيك تحيّرا
وارحم حشاً بلظى هواك تسعّرا
وإذا سألتك
أن أراك حقيقةً
فاسمح ولا تجهل جوابي لن ترى
في هذه
الأبيات، لا يطلب ابن الفارض شيئًا من الدنيا، بل يناجي الله. يريد أن يغرق في
الحب حتى الحيرة، وأن يشعل قلبه بنار الشوق.هذا الشعر ليس مجرد كلمات، بل دعاء عاشق، ورجاء ولي،
ونبض قلب لا يرتوي.
