أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

هل التصوف الإسلامي تأثر بالفلسفات الهندية والمسيحية؟

هل التصوف الإسلامي تأثر بالفلسفات الهندية والمسيحية؟

يُعد التصوف الإسلامي أحد أبرز التيارات الروحية التي أثرت في الفكر الإسلامي، حيث نشأ كحركة زهد وتنسك في القرون الهجرية الأولى قبل أن يتطور إلى منهج روحي وفلسفي قائم بذاته. ورغم أن التصوف ارتكز على أصول إسلامية مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، إلا أن جذوره وتأثره بالفلسفات والمعتقدات الأخرى كانت موضع جدل واسع بين الباحثين العرب المسلمين والمستشرقين. فهل التصوف تجربة روحية خالصة داخل المنظومة الإسلامية، أم أنه تأثر بالفكر الهندي، المسيحي، اليهودي، واليوناني؟

 ظهر الزهد في الإسلام خلال القرن الأول والثاني الهجري، حيث دفع مقتل الصحابة رضي الله عنهم، وما تبعه من فتن واضطرابات، جعل عدد من المسلمين يعتزلون الدنيا ويبحثون عن الصفاء الروحي. ويعتبر الحسن البصري أحد أبرز رموز حركة الزهاد، لتتطور هذه الحركة فيما بعد لتصبح تصوفا، "فإن الزهد عبارة عن ترجيح الآخرة على الدنيا والتصوف اسم لترك الدنيا تماما. والزهد هو تجنب الحرام، والاقتصاد في الحلال، والتمتع بنعم الله بالكفاف، وإشراك الآخرين في آلاء الله ونعمه وخدمة الأهل والإخوان والخلان"[1].

 لقد نشأ التصوف الإسلامي في بيئة إسلامية تستند إلى الكتاب والسنة النبوية، لكنه لم يكن معزولاً عن التأثيرات الفكرية والثقافية التي أحاطت به، مما جعله مجالاً واسعا للنقاش بين الباحثين حول أصالته ومدى تأثره بالفلسفات والمعتقدات الأخرى. أما مصطلح الصوفية، فقد اختلفت الآراء حول أصله، فالبعض يرى أنه مشتق من الصفاء الروحي، وكذلك يرى آخرون بأن الصوفية تشير إلى مكانتهم المتقدمة في طريق العرفان، إذ يُقال إنهم في "الصف الأول بين يدي الرحمن". " سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع همهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بسرائرهم بين يديه"[2].

أيضا هناك من يرجع التسمية إلى لباس الصوف، الذي ارتداه الزهاد كرمز للتقشف والزهد في الدنيا. " وأما من نسبهم إلى الصفة والصوف فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم، وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا، فخرجوا عن الأوطان، وهجروا الأحداث، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأعروا الأجساد، لم يأخذوا من الدنيا إلا ما لا يجوز تركه، من ستر عورة، وسد جوعة"[3]. عرف عن أهل التصوف كثرة هجرة الأوطان، ويتخذون من الكهوف مسكنا لهم، كما أن الطعام يأكلون منه ما يبقيهم على قيد الحياة حتى قيل عنهم " أكلهم أكل المرضى، ونومهم نوم الغرقى، وكلامهم كلام الخرقى". 

كان الصوفي زاهداً في الحياة، لا يملك من الدنيا أي شيء من متاعها، حتى لباسه ليس من أجل التباهي، أو تحسين المظهر ولفت الانتباه، بل مجرد وسيلة من أجل ستر العورة. لم تشغله تجارة عن ذكر الله عز وجل، واختار لباس الصوف اقتداءً بالأنبياء عليهم السلام، وهذا الاختيار أي لبس الصوف لأنه ترك زينة الحياة الدنيا، وتخلص من ملذاتها. تعلق قلب الصوفي بالآخرة لذلك يعد لباس الصوف اختيار للمتقشفين والزهاد الصالحين والعباد، كما أن ارتداء ألوان معينة في الصوف لم يكن عشوائيا، بل حمل دلالات روحية عميقة؛ تختلف حسب أحوالهم، فذاك الذي يرتدي الأسود يُقال إنه استطاع التخلص من النفس وقتل أهوائها بالصبر والمجاهدة، أما الذي تاب إلى الله وطهر قلبه من الذنوب، فإن الصوف الأبيض هو الذي يليق به كرمز للنقاء. في حين الذي استطاع تجاوز العالم الأرضي السفلي، وارتقى بروحه وتجاوز عالم المادة واتصل بالسماء، العالم العلوي فإنه يلبس الصوف الأزرق، وهو الذي يرمز إلى الارتقاء الروحي والصفاء السماوي.

 تعددت الآراء حول أصل التصوف ومعناه، فبينما يرى البعض أن الكلمة مشتقة من ’صوفيا‘ اليونانية التي تعني الحكمة، يؤكد آخرون أنها مستمدة من لباس الصوف الذي اتخذه الزهاد والمتصوفة رمزا للتقشف. هذا الجدل لم يقتصر على أصل المصطلح بل امتد إلى ظهوره التاريخي؛ حيث تضاربت الآراء في كون الاسم ظهر في زمن النبي ﷺ، بينما يعتقد البعض أنه كان في عصر التابعين. مع مرور الزمن، انقلب الحال، فقد كان التصوف موجوداً كمعنى بلا اسم أما الآن فهو العكس، فالتصوف يوجد كاسم خالٍ من المعنى، فقد أصبح اسماً متداولاً لكنه فقد في بعض جوانبه جوهره الروحي الأصيل. يعتبر جابر بن حيان أول من لقب بلفظ ’الصوفي‘ على العموم على الرغم من وجود عدة اختلافات حول الاسم إلا أن الأغلبية اعتبروه أي مصطلح التصوف حديث، لم يكن مستخدماً في عهد النبي ﷺ أو الصحابة أو السلف الصالح. 

لقد جاء التصوف كرد فعل على فتن المدينة وزخرفتها وزينتها، لأن المسلمين بعد الحصول على مغانم الغزوات والفتوحات أعجبتهم الدنيا وانغمسوا في نعيمها. في مواجهة هذا التحول، اختار المتصوفة طريق العزلة والتجرد عن الدنيا، فضل الصوفي أن يختلي مع نفسه ويبتعد عن زينة المدينة وترك الدنيا والزهد في ملذاتها، وبالتالي التصوف مبني على الفقر، لقد ترسخت فكرة التصوف والفقر مع الزمن، في القديم لم يجتمع المال والتصوف، حيث اعتبر المال والتصوف نقيضين لا يجتمعان، ويؤكد ذلك أبو اليزيد البسطامي عندما سئل عن كيفية حصوله على الحكمة والمعرفة كان جوابه: " بطن جائع وبدن عار" مما يعني أن المتصوف يهرب من العالم المادي الذي هو عالم الترف إلى عالم الترف الروحي، فبالنسبة للصوفية، كان التجرد من قيود التملك والتعلق بالأشياء وسيلة لتحقيق الحرية الداخلية والتفرغ لذكر الله والتأمل في الحقائق الروحية. لقد عرف عن المتصوفة أسلوب حياتهم القائم على تناول الطعام القليل، ويميلون إلى السهر الطويل في الذكر والعبادة، وأيضا الكلام القليل، ويختارون الصمت والعزلة عن الناس. فهم يرون أن الخلوة طريق للوصول إلى الحقيقة الإلهية. 

كما أشار إمام العارفين ابن عربي، فإن التصوف طريق الشدة، لا مكان فيه للراحة والترف، فالصوفي يجاهد نفسه وميلها إلى الرخاء والراحة، لذلك رياضتها روحية تهدف إلى ترويضها على تحمل المشقة وتجرع المرارات. لذلك، اختار العديد من الصوفية العيش في الكهوف والمغارات، بعيدا عن صخب الحياة، من أجل تهذيب النفس والعمل على مراقبة تصرفاتهم ورغباتهم، من أجل الفوز برضى الله والحصول على المعرفة الروحية والتوصل إلى الحقيقة؛ واكتشاف الحق ولاجتهاد في تحقيق راحة القلب وطمأنينة الروح. 

من بين النقاط المثيرة للجدل حول التصوف الإسلامي هو القول بأنه مزيج من الأفكار الإسلامية والمسيحية واليهودية، بالإضافة إلى تأثره بالفكر البوذي، وكما سبق الذكر أيضا تأثره بالفلسفة اليونانية. وبالتالي اختلفت الآراء حول أصول التصوف، فعدد من المستشرقين اعتبروا بأن مصدر التصوف هو النصرانية، مستشهدين باستخدام الحلاج لمصطلحات مسيحية كاللاهوت والناسوت وكذلك الكلمة، وهي مفاهيم مركزية في المسيحية. من هذا المنطلق، رفض بعض المستشرقين أن يكون مصدر التصوف ما هو إسلامي محض، مشيرين إلى أن الحضارات تفاعلت مع بعضها البعض عبر العصور، مما سمح بحدوث تبادلات فكرية وثقافية، أثرت على التصوف الإسلامي. فقد كانت علاقة تأثير وتأثر بين مختلف الحضارات، لذلك تم عد تعاليم التصوف الإسلامي وفلسفته وطرقه ذات مصادر أخرى غير الإسلام مثل الهندية والمانوية والزرادشتية.

 وبالتالي حاول المستشرقون الذين اهتموا بالتصوف الإسلامي في دراساتهم إثبات أن التصوف لا ينفصل عن أصوله من فلسفات أخرى." لذلك رأى بعض العلماء أن التصوف الإسلامي هو إيجاد الفلسفة اليونانية، بينما قال البعض الآخر: أنه نواة الدين المسيحي، في حين أن فريقا من المحققين يميلون إلى أن التصوف الإسلامي قد أخذته العرب من الهنود كما أخذت العرب الفلسفة من اليونان إذ كان التصوف شائعا رائجا بين الهنود قبل الإسلام بقرون، ولم يظهر عند العرب في صورة مذهب مستقل إلا بعد فتح البلاد الهندية واختلاطهم بأهل تلك البلاد"[4]. مما يسمح لنا بالقول إن التصوف ليس ظاهرة مقتصرة على الإسلام وحده، بل ظهرت في مختلف الثقافات والتقاليد الدينية؛ فهو نزعة إنسانية عامة.

 ومع ذلك، فإن التصوف الإسلامي يستمد قيمه وتعاليمه الأساسية من القرآن الكريم والسنة النبوية، كما أن الزهد هو عماد هذه النزعة الروحية وجوهرها. رغم أن التصوف واجه في بداياته نظرة نقدية داخل المجتمعات الإسلامية، نظراً لاختلافه عن الممارسات الدينية التقليدية. لقد أثار مفهوم التصوف ومصادره ومرجعياته نقاشاً واسعاً بين الباحثين العرب والمسلمين وكذلك المستشرقين، مما يعني أنه من الصعب وضع تعريف دقيق وشامل له. فالتصوف ليس مفهوماً ثابتا، بل مر بعدة مراحل تاريخية عديدة، وشهد مجموعة من التغيرات الجوهرية التي أثرت على تعريفه من عصر إلى آخر ومن باحث إلى آخر. إضافة إلى ذلك، فإن التصوف تجربة روحية فردية بامتياز، وبالتالي تتشكل وفقا للحالة الروحية لكل متصوف، فهذه التجربة تختلف من صوفي إلى آخر. 

يمكننا أن نصف التصوف بأنه "علم خاص بالقلوب والباطن والجوهر"، حيث يقوم على التزكية الروحية والسلوك التعبدي الهادف إلى الوصول إلى الحق، والتعرف عليه والعلم به، أي تطهير القلب من كل شائبة من شوائب الدنيا للوصول إلى صفاء النفس ومعرفة الحق المطلق. من الصعب تعريف التصوف لأنه في نهاية المطاف، إشارات إلهية وعطايا وهبات ربانية، كذلك مكاشفة للأسرار يعرفها أهل التصوف فقط، " الصوفي هو الذي سلم قلبه كقلب إبراهيم من حب الدنيا، وصار بمنزلة الحامل لأوامر الله، وتسليمه تسليم إسماعيل، وحزنه حزن داود، وفقره فقر عيسى، وصبره صبر أيوب، وشوقه شوق موسى وقت المناجاة، وإخلاصه إخلاص محمد"[5].

على وجه الختام، يظل التصوف ظاهرة روحية عميقة تحمل في طياتها أبعاداً متعددة، حيث يجمع بين الزهد، وأيضا التأمل، والرياضة الروحية، سعياً إلى الحقيقة الإلهية. على الرغم من الاختلافات حول أصله ومصدره، إلا أنه يبقى ذا ارتباط بالقرآن والسنة، متجذراً في التراث الإسلامي. كما أن جدلية تأثره بباقي الفلسفات الهندية، المسيحية، واليونانية تظهر لنا مدى تداخل الحضارات وتفاعلها. التصوف الإسلامي حاضر عبر العصور من خلال مدارسه وطرقه.

 



 إحسان الله ظهير، التصوف المنشأ والمصادر، إدارة ترجمان السنة، ط1، 1986, ص 9. [1]

 المرجع السابق، ص 27. [2]

المرجع السابق، ص 21.[3]

المرجع السابق، ص 128. [4]

المرجع السابق، ص 39.[5]

سعيدة مهير
سعيدة مهير