أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

ما هو الزهد الحقيقي؟ أقوال الجنيد ورابعة العدوية والحسن البصري تُنير الطريق

ما هو الزهد الحقيقي؟ أقوال الجنيد ورابعة العدوية والحسن البصري تُنير الطريق

في هذا الزمن أصبحنا نركض خلف الأشياء: المال، الشهرة، المظاهر... وكأن السعادة شيء نشتريه أو نمتلكه.لكن هناك من اختار طريقا آخر، طريقا يبدو غريبا في عيون الناس، ولكنه مليء بالسكينة في أعماقه.هذا الطريق هو التصوف، والزهد أحد أبوابه الكبرى. في عالم مليء بالرغبات والتعلق بالأشياء، يظهر الزهد كأحد أهم معاني التصوف. فالزاهد ليس من يترك الدنيا كليا، ولا من يرفض المال أو اللباس أو العمل، بل هو من يعيش في الدنيا دون أن تسكن الدنيا في قلبه. الزهد في التصوف يعني أن يكون القلب حرا من التعلق، وأن يكون الإنسان غنيا بالله لا بما يملك.

فالصوفي لا يطلب الزهد ليحزن أو يتألم، بل ليحرر روحه من قيود الدنيا، ويقترب من الله بقلب خفيف لا يشغله متاع ولا تقيده شهوة.في هذا العالم الذي أصبح فيه كل شيء يبحث عن الضوء والظهور، وفي زمان صار الناس فيه يلاحقون الشهرة وكأنها غاية الحياة يظهر الصوفي مختلفا. لا يحب الكاميرات، ولا المنصات، ولا التصفيقالصوفي يفضل الصمت على الضجيج، والخفاء على الظهور، والقلب على الصورة. إنه يؤمن ان الله لا يرى بالعيون، بل يشعر به في القلوب. فلماذا يهرب الصوفي من الشهرة؟ هل لأنه لا يريد الناس؟ أم لأنه يريد الله فقط؟
في هذا المقال، سنغوص معا في أسرار الزهد، ونسأل: لماذا اختار الصوفي أن يكون بعيدا عن الأضواء، قريبا من النور الحقيقي؟ ونفتتح بهذه الكلمات لشمس الدين التبريزي: " أن الله لا يعثر عليه بالبحث، ولكن الذين يبحثون عنه هم الذين يجدونه." في هذا الطريق يعيش الصوفي حياة الزهد والتقشف، ليس ابتعادا عن الحياة، بل انسجاما مع جوهر الروح. الزهد هو رحلة البحث عن السكينة الحقيقية التي لا تمنحها الدنيا ولا المال، بل فقط قرب الله.يتعلم الصوفي أن يترك ما يشغله عن ربه، ويتجه نحو السلام الداخلي الذي يعم القلب والروح.اختلف الباحثون والنقاد في تحديد الأسباب التي أدت إلى نشوء تيار الزهد والتصوف في الإسلام.

فبعضهم يرى أن مصدره يعود إلى تعاليم الإسلام نفسها، التي تدعو إلى الورع وترغب في الابتعاد عن زخارف الدنيا وزينتها، وتقلل من شان التعلق بها.وقد دفع هذا التوجه عددا من المسلمين إلى اتخاذ الزهد نهجا في حياتهم.إلا أن مظاهر الزهد كانت متفاوتة؛ فبعضهم زهد باعتدال، فلم يحرم على نفسه الطيبات، ولم يبالغ في الترف، بل سار على هدي السنة النبوية، فعاش حياة بسيطة تقوم على القناعة دون تبذير أو إسراف، ودون تقتير أو بخل، محققا بذلك مبدأ الوسطية في العيش. قد دعانا القرآن والحديث الشريف إلى الزهد والتخفيف من الدنيا. قال الله تعالى: [والآخرة خير وأبقى]. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال: [ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس].

معنى قول النبي صلى الله عليه واله وسلم "ازهد في الدنيا": أن لا تجعل الدنيا أكبر همك، ولا أن تتعلق بها تعلقا ينسيك الآخرة.خذ منها ما تحتاج إليه، واترك ما لا ينفعك عند الله، فتكون محبوبا عند الله، لأنك اخترت ما عنده ورضيت بما قسمه لك.وأما قوله "ازهد فيما عند الناس"، فإنه يريد منك أن لا تطمع فيما في أيدي الناس، ولا تنظر إليهم نظرة الحاجة. فإذا فعلت ذلك، أحبك الناس، لأنك لا تنازعهم في دنياهم، ولا تثقل عليهم بطلباتك، فتعيش حرا كريما، محبوبا في قلوبهم.

هكذا، فإن هذا الحديث النبوي يخبرنا أن الزهد ليس تركا للدنيا بمعناها المادي فقط، بل هو حالة قلبية وموقف روحي يحرر الإنسان من التعلق بما يفنى، ويوجهه إلى ما يبقى.وهذا هو عين ما دعا إليه الصوفية: أن تعيش في الدنيا، ولا تجعلها تسكن في قلبك. وأن تكون حرا من الأطماع، فيحبك ربك ويحبك الناس.فالزهد في عيون أهل التصوف ليس تجافيا عن الدنيا بالجسم، ولكن تجاف عنها بالقلب. قال الجنيد: الزاهد هو من لا يفرح إذا وجد، ولا يحزن إذا فقد.الجنيد يعطي تعريفا عميقا لحال الزاهد الحقيقي، لا الزاهد الظاهري أو المدعي.
وهو يبين أن الزهد ليس في المظهر أو الملبس أو الكلمات، بل في حالة القلب تجاه الدنيا وممتلكاتها. الزاهد هو من ابتعد قلبه عن التعلق بالدنيا، ولو عاش فيها.لا يفرح إذا وجد، أي لا يفرط في الفرح حين يحصل على المال، أو يرزق بشيء من الدنيا، لان قلبه ليس متعلقا بها. ولا يحزن إذا فقد، أي لا يضطرب ولا يكتئب إذا فقد شيئا من متاع الدنيا، لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى.الصوفي يعتبر الزهد خطوة أولى نحو السير إلى الله، وهو أن لا تملكك الدنيا، حتى ولو ملكتها. الزاهد لا يجعل السعادة مرهونة بالامتلاك، ولا الحزن مرهونا بالفقد، لأنه تعلق بالله لا بالعرض الزائل. الحديث يعلمنا الاتزان الروحي، والرضا، والتسليم.

الزاهد لا يكون عبدا للمال أو للمظاهر، بل يعيش الدنيا بيديه لا بقلبه، ويظل قلبه حرا لا يملكه إلا الله. وقال أيضا: الزهد خلو القلب عما ليس في اليد. سأل رويم الصوفي شيخه الجنيد عن الزهد، فقال: الزهد استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب. كان رويم من المتصوفين الذين اقتبسوا وتعاملوا مع تعاليم الجنيد الروحية، وساهم في نشر الفكر الصوفي وتطويره. يذكر رويم كثيرا في كتب التصوف كواحد من تلاميذ الجنيد الذين تعلموا منه مفاهيم الزهد والتقوى والتصوف العملي.

قال الإمام الجنيد رضي الله عنه: سمعت سريا يقول: أن الله عز وجل سلب الدنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه، وأخرجها من قلوب أهل وداده، لأنه لم يرضها لهم. يبين الإمام الجنيد رحمه الله ما سمعه من شيخه: أن الله تعالى لا يحب أن تشغل الدنيا قلوب عباده المقربين، فهو جل وعلا ينزع الدنيا من قلوب أوليائه، ويحميها عن أصفيائه، ويطهر منها قلوب أحبائه، لأنهم أغلى عنده من أن يتعلقوا بما هو فان وزائل. فالله برحمته لم يرض الدنيا لهم، لأنها لا تليق بمكانتهم عنده، ولا تنسجم مع مقام المحبة والصفاء الذي بلغوه.فالدنيا عند أهل الله ليست غاية ولا رغبة، بل هي فتنة يجب الحذر منها، ليكون القلب خالصا لله وحده.

سئل الحسن البصري عن سر زهده في الدنيا، فقال: أربعة أشياء:علمت أن عملي لا يقوم به غيري، فاشتغلت به.وعلمت أن رزقي لا يذهب إلى غيري، فاطمأن قلبي.وعلمت أن الله مطلع علي، فاستحييت أن يراني على معصيةوعلمت أن الموت ينتظرني، فأعددت الزاد للقاء ربي.

رابعة العدوية، إمامه العاشقين: تلك المرأة التي وهبت عمرها كله لله، حبا وعبادة، ظاهرا وباطنا، قولا وفعلا.حتى صار باطنها كظاهرها، لا فرق بين خلواتها وجهرها.يعرفها القريب والغريب، ويشهد لها السائل والناظر بما تحمله من صدق التوجه وسمو المقصد.وقد سألها الزاهد الكبير سفيان الثوري يوما: ما أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله؟فبكت، ثم أجابت بتواضع العارفين: أمثالي يسألون عن هذا؟ أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله، أن يعلم أنه لا يحب من الدنيا ولا من الآخرة سواه.هكذا كانت رابعة، وعلى ذلك ختمت حياتها، على طريق المحبة الخالصة، والتجرد الكامل لله وحده.من بين الأبيات التي تجسد روح الزهد والعشق الإلهي، وهي من أروع ما قالت:

عرفت الهوى مذ عرفت هواك

وأغلقت قلبي على من عاداك

وقمت أناجيك يا من ترى

خفايا القلوب ولسنا نراك

أحبك حبين حب الهوى

وحبا لأنك أهل لذاك

فأما الذي هو حب الهوى

فشغلي بذكرك عمن سواك

وأما الذي أنت أهل له

فلست أرى الكون حتى أراك

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي

ولكن الحمد في ذا ولا ذاك لي

ولكن الحمد في ذا وذاك

 

سعيدة مهير
سعيدة مهير