في رحلة
روحية جميلة مع أحد أشهر أشعار الصوفية ومحب الله جلال الدين الرومي، سنستكشف معا
كيف رأى هذا العالم والشاعر الحب، وما هي رحلة العشق التي دفعته إلى قلب الله وعالم
الروحانية. هل ترغب في فهم الحب الذي يغير القلوب ويصنع من المرء إنسانا جديدا؟
إذاً فلنبدأ هذه الرحلة سويا. من هو جلال الدين الرومي؟
هو شاعر ومتصوف عظيم، ولد في سنة 1207 في مدينة تدعى بلخه، وهي من مدن الشرق
القديمة تقع الآن في أفغانستان. عاش الرومي في وقت صعب، فكان عليه أن يغادر مدينته
مع أسرته بسبب الحروب والاضطرابات السياسية. رحل كثيرا، ولكنه حفظ في قلبه نار الحب
والطمأنينة. كتب رسائل وأشعارا جميلة تعبر عن حبه لله ورحلته الروحية.
وكان لقائه
مع الشيخ شمس الدين التبريزي تحويلا كبيرا في حياته، حيث علمه أن الحب هو السبيل
الوحيد للقرب من الله. كان شمس الدين التبريزي رجلاً صوفياً غريباً ومتميزاً، عرف
جلال الدين الرومي معنى الحب الحقيقي هذا اللقاء كان
نقطة تحول كبيرة في حياة الرومي، فبعده صار ينظر إلى الحياة والحب والدين بنظرة
جديدة. علمه شمس أن الحب ليس شعورًا عابرًا، ولكنه نور يضيء القلب ويحول الإنسان.
وبفضل هذا الحب، كتب الرومي أشعارًا تتحدث عن الحب
والروح والطرق إلى الله. يرى جلال الدين الرومي أن الحب ليس مجرد شعور عابر أو
رغبة سريعة، بل هو نهر عميق يجري دائمًا في قلب الإنسان وفي كل مكان في الكون.
الحب الحقيقي هو اتصال الروح بالله، وهو اشتياق دائم للقرب منه.
عندما يحب الإنسان
الله، يصبح قلبه نقيًا وروحه مرتاحة، ويؤمن الرومي أن الحب هو السبيل للسلام والطمأنينة
الحقيقية، ودونه يكون الإنسان كالغريب في هذه الدنيا. يقول جلال الدين الرومي في أحد أبياته: "لو
كنت تبحث عن الحب، فاعلم أن الحب ليس للجسد فقط، بل للروح أيضًا". هذا المعنى
يوضح أن الحب الحقيقي ليس مجرد شعور مريح للجسد، بل هو رجاء الروح واشتياقها للقرب
من الخالق. ويقول الرومي أيضًا:
"أنت لست من الدنيا، بل من حب الله نشأت". هذه الكلمات تذكرنا بأن أصلنا
ومنبعنا الحقيقي هو الله، وأن الحب له هو السبيل للرجوع إلى الوجود الحقيقي.
يعلمنا جلال الدين الرومي أن الحب الإلهي يبدأ
بالصدق والإخلاص، فلا يجب أن نحب الله لمنافع دنيوية، ولا أن ننتظر منه جزاء.
ويشدد على أن طريق الحب قد يكون صعبًا ومتعبًا، ولكنه جميل ومغني للروح. علينا أن نسمع لصوت قلوبنا
ونتبع دعوة أرواحنا، ولا نعيش حياة مبنية على العقل والمنطق فقط. الحب الإلهي في
فكر جلال الدين الرومي ليس كأي حب آخر، إنه حب نقي لا يريد شيئًا، ولا ينتظر جزاءً
أو مقابلًا.
فإن تحب الله
في نظر الرومي، يعني أن تفنى في ذكره، أن تجعل كل ما في الدنيا صغيرًا إلى جانب
نوره، وأن تشعر بأن قلبك يناديه في كل وقت وفي كل مكان. هذا الحب لا يقيدك، بل يحررك،
يخرجك من خوفك، ويملأك بالثقة والسكينة. وفي هذا الحب تجد نفسك
تبكي من غير ألم، وتبتسم من غير سبب، لأن روحك أصبحت متصلة بمن خلقها. فالرومي
يريد لنا أن نخرج من حب الأشياء، وندخل في الحب الذي لا يزول، في الحب الذي يبقى
ويزيد ويسقينا كل يوم نورًا ورجاء. هل يغير الحب الإلهي شخصية الإنسان؟ نعم، في نظر جلال الدين الرومي،
الحب الإلهي لا يبقي الإنسان كما هو، بل يغيره، يطهره، ويجعله أفضل وأنقى. فعندما
يدخل الحب قلبك، تبدأ ترى الدنيا بنظرة شديدة، تغفر لمن أذاك، وتحب من اختلف معك،
وترى الجمال في كل ما خلق الله. الحب يجعلك تتواضع وتتعلم
كيف تسمع صوت قلبك، وبهذا يصير الحب نورًا في سلوكك، وهدى في كلامك، وسلامًا في
داخلك.
فالرومي لا
يتحدث عن الحب ككلمة، ولكنه يتحدث عنه كطريق يؤدي إلى الله، والذي يسير في هذا
الطريق يترك وراءه كل غضب وحقد وكبر، ويملأ قلبه بالحنان والرحمة.العاشق عند
الرومي ليس من يكثر الكلام، ولا من يظهر الدموع في كل وقت، ولكنه ذلك الإنسان الذي
أحب الله بصدق، فصمت قلبه إلا عن ذكره. العاشق لا يريد شيئًا، لا جنة ولا نعيمًا،
هو يريد قرب الله، وأن يبقى في حضرته. في قلبه نار من الشوق، وفي
عينيه نور من الحنان، وفي صمته كلام طويل لا يفهمه إلا الله.
الرومي يحب
هذا النوع من العشاق، لأنهم ساروا في طريق الحب، ونسوا أنفسهم، وصاروا مرايا تظهر
نور الرحمة والجمال الإلهي. فالحب الإلهي ليس نهاية،
بل هو بداية لرحلة جديدة، رحلة ننقطع فيها عن الدنيا ونتصل بالسماء، رحلة نذوب
فيها في ذكر الله حتى نصير نورًا.
فلنسر مع
الرومي في طريق العشق، ولنجعل قلوبنا تنادي الله ليس خوفًا، بل حبًا وشوقًا
وامتنانًا. عندما يدخل الحب الإلهي
إلى القلب، يبدأ كل شيء في الداخل يتغير، تصبح أفكارنا أنقى، ونظرتنا إلى الناس
أكثر رحمة، ونبدأ نفهم أن الحياة لا تدوم، ولكن الحب يبقى، الروح تبتهج، والقلب
يسكن، ونشعر أننا لا نبحث عن شيء في الدنيا سوى هذا النور الذي يضيء فينا.
لم يكن
الرومي يحب الكلام فقط، بل كان يريد أن يعبر عن الحب الإلهي بكل الجسد. ومن هنا
ظهر الرقص الدوراني أو السماعة، حيث يدور الصوفي حول نفسه كأنه كوكب يدور في فلك
الحب. هذه الحركة ليست فناً ولا تسلية، إنها دعاء بصمت وتأمل حركي فيه تغيب الأنا
وتظهر الروح ويستقر الحضور الإلهي. ليس كل من تكلم عن الحب
يعد عاشقاً، وليس كل من بكى في الصلاة قد بلغ مقام العشق. العاشق الصادق هو من طهر
قلبه من الغضب والحسد والضغينة، وزرع فيه الرضا واللطف والصبر والثقة بالله. من
أحب الله بصدق أحب كل ما خلق، وصار مرآة للرحمة ورسولاً للسكينة.
الرومي كان
يعيش في زمن صعب فيه الحروب والهجرة والخوف، ومع ذلك لم يترك الحب، ولا فقد الأمل.
الحب في الزمن الصعب هو نور في الظلام، وهو سبيل كي نبقى بشراً في وقت ينسى فيه
الناس أنفسهم. فلنتعلم من الرومي كيف نحب حتى في وقت الأزمات، ففي الحب نجد الله،
وفي الله نجد كل شيء. إن الله منهمك في إكمال
صنعك من الخارج ومن الداخل، إنه منهمك بك تماماً. فكل إنسان هو عمل متواصل يتحرك
ببطء ولكن بثبات نحو الكمال. فكل واحد منا هو عبارة عن عمل فني غير مكتمل يسعى
جاهداً للاكتمال. إن الله يتعامل مع كل واحد
منا على حدة، لأن البشرية لوحة جميلة رسمها خطاط ماهر، تتساوى فيها جميع النقاط من
حيث الأهمية لإكمال الصورة. ولا تقلق إذا انقلبت حياتك رأساً على عقب، إذ من أين لك
أن تعرف أن الجهة التي ألفها أفضل من الجهة الأخرى؟
إن تخدير
الألم يختلف عن علاجه، لأن الألم يظل موجوداً بعد زوال مفعول المخدر. كل ما تقوله
خيراً كان أم شراً سيعود إليك بطريقة ما، لذلك إذا كان هناك من يكن لك سوء الظن،
فإن قولك عنه سوءاً مماثلاً سيزيد الأمر سوءاً. لا تحكم على الطريقة التي يتواصل بها الناس مع الله، فلكل امرئ طريقته
وصلاته الخاصة. إن الله لا يأخذنا بكلماتنا، بل ينظر في أعماق قلوبنا. ليست النسك
أو الطقوس هي التي تجعلنا مؤمنين، بل صفاء قلوبنا هو المعيار.
إن البحث عن
الحب يغيرنا: المال، الشهرة، السلطة، الرفاهية، أو المتعة الجسدية، وكل ما يعتبره
الإنسان شيئاً عزيزاً عليه، إنما ينبغي له التخلص منه أولاً. إن هذا العالم أشبه ما يكون بجبل من الثلج يردد صدى صوتك. إن الصمت
الذي يعقب مصيبة كبرى هو الصوت الأكثر سلامة الذي يمكنك سماعه على سطح الكون. لا تحاول أن تقاوم التغييرات التي تعترض سبيلك، بل دع الحياة تعيش فيك.
ولا تقلق إذا قلبت حياتك رأساً على عقب، فكيف تعلم أن الجانب الذي اعتدت عليه أفضل
من الجانب الذي سيأتي؟
الأبدية لا
تعني زماناً لا متناهياً، بل تعني خلوداً بكل بساطة. إن الكلمات التي تخرج من
أفواهنا لا تتبخر، بل تخزن باستمرار في فضاء لا نهائي، وستعود إلينا في الوقت
المناسب. إذا أردت أن تغير الطريقة
التي يعاملك بها الناس، فغير أولاً الطريقة التي تعامل بها نفسك. وإن لم تتعلم كيف
تحب نفسك حباً كاملاً صادقاً، فلا وجود لوسيلة يمكنها أن تحب. لا تسِر مع التيار، بل كن أنت التيار. وعندما تلج دائرة الحب، تكون
اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمان. فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات
لا يمكن إدراكه إلا بالصمت.
وفي نهاية
هذه الرحلة الروحية، ندرك أن التصوف ليس نسكاً مجرداً، ولا هروباً من الدنيا، ولا
كلمات مزخرفة تتلى في الكتب، بل هو حياة ونظرة إلى الوجود بقلب يبصر قبل العين،
وحب صافٍ يجعل الإنسان أقرب إلى نفسه، وإلى الله، وإلى كل ما في الكون. الحب في التصوف هو جوهر الوجود، هو نبض الحياة وروحها. إنه الطريق الذي
يمحو الكره، ويعلم التسامح، ويربي فينا نور القلب ورقة الروح. فإذا سرت في درب العاشقين، لا تسأل عن أين، ولا كيف، ولا متى، فقط اجعل
نيتك صادقة وقلبك نقياً، وسيحملك الحب إلى أبواب الحق.
وتذكر دوماً،
العاشق لا يريد من الله شيئاً، بل أن يظل قريباً.
ندرك أن
التصوف ليس طريقاً فقط، بل هو وطن الروح، وغذاء القلب، وضياء البصيرة. إنه المسار
الذي يحول الوجع إلى حكمة، والظلمة إلى نور، والذات إلى عطاء.ففي مذاهب
العاشقين لا يسألون ماذا أخذنا من الله، بل يسألون كيف نكون أقرب إليه. وهنا لا يمكننا أن نختم دون أن نصغي إلى نفس مولانا جلال الدين الرومي،
الذي كان يؤمن أن الحب هو الجواب على كل شيء. قال في إحدى كلماته: "في العشق كل شيء يذوب؛ الأنا، والغرور،
والخوف". فإذا دخلت منطقة الحب، فلن
تكون بحاجة إلى لغة، فالصمت يصبح هناك أبلغ من كل كلمة. فلنصمت قليلاً في ختام الكلام، ولنتمهل، هل قلوبنا جاهزة لتسكنها نور
المحبة؟ هل نحن مستعدون لأن نصبح عاشقين لأجل شيء، ولكن لأن الله يستحق أن نحبه؟
في العشق الإلهي كل شيء يصبح نوراً، حتى الدمع، وحتى الصمت. وكما قال الرومي: "كن كالشمس في الرحمة، وكن كالليل في الستر، وكن كالماء في الكرم".وكن، بقلب محب، اللهم اجعل قلوبنا مساكن لنورك، وأروي أرواحنا من بحر محبتك، ولا تجعل لنا هما إلا القرب منك، ولا رغبة إلا في وجهك. واجعلنا ممن عشقوك حتى غابوا فيك، وذابوا في جلالك.