أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

شمس الدين التبريزي: من العشق الإلهي إلى القتل الغامض ونهايتة المأساوية في قونية

شمس الدين التبريزي: من العشق الإلهي إلى القتل الغامض ونهايتة المأساوية في قونية

من هو ذلك الرجل الغامض الذي هزَّ وجدان جلال الدين الرومي، وغيَّر مسار حياته من فقيه تقليدي إلى شاعر عاشق؟ إنه شمس الدين التبريزي، العارفُ المتجوِّل، الذي لم يكن يبحث عن شهرةٍ ولا أطماع. هو العاشق الغريب، المعلّم الصامت، المتجوّل الذي أشعل نار العرفان في قلب الرومي، ثم اختفى...رجل لا يُشبه أحدًا، يرفض القيود والتقاليد، ويبحث عن الحقيقة بكل جنونه وبصيرته. من أين جاء؟ ماذا أراد؟ ولماذا غاب فجأة؟

في هذا المقال سنُبحر في سيرة هذا العارف المتمرِّد، ونتلمَّس أثره العميق في التصوف.وُلد شمس الدين في تبريز بإيران، في بيتٍ متديّن. ومن صغره كان غير عادي: صامتًا، شاردًا، يجلس ساعات ينظر إلى السماء ويفكّر. تعلَّم العلوم الشرعية، لكنه لم يكتفِ بكتاب، ولا بشرح، ولا بحفظ. كان يسأل: أين الحق؟ أين الروح في هذا الكلام؟ أترى نزل القرآن لنجادل أم لنذوق؟

وُلد شمس الدين التبريزي في بيتٍ رحّال، كان والده يجوب الأقطار والبلاد باسم التجارة، فورث عنه شمس هذه الحرفة، فكان يسافر متنقّلًا بين المدن والقرى.يظهر كتاجر أمام الناس، لكن في داخله كان شوقٌ أكبر وأعمق: طلبُ العلم وطلب الحقيقة من مصدرها. كان يحمل معه حصيرًا بسيطًا، لكنه يضعه في غرفة مقفلة، حتى يظنّ الناس أن لديه ثروة ثمينة. ومع هذا، لم يكن يتكلف العيش على أحد، بل كان ينسج من ثيابٍ بسيطة يبيعها، ويكسب رزقه بكرامة. كما عمل في الحدادة، وبيع سلال الخيزران، التي كانت تلقى رواجًا وزبائن كُثر.تنقّل شمس الدين في البلاد، ما بين بغداد والشام وقِيه، يلتمس قلبًا يُشاركه الوجد.
قال: "كلُّ ما طلبتُه هو قلبٌ يفهمني، يُراقصني في الصمت، ويُصلّي معي في الحب." كان يحب الصمت، ويرى أن في السكوت تتجلّى الحضرة.فالصوت، إذا لم يحمل نورًا، صار ضجيجًا يُبعدك ولا يُقرّبك.كان شمس غريبًا في كل شيء: في نظراته، في سكوته، في كلماته.لا يُشبه الشيوخ في مجالسهم، ولا في خُطبهم.

كان يمشي وحده، ويتحدّث إلى الله وكأنه يُجيبه. كان يُفضّل الصيام والعزلة، وإذا حضر مجلسًا، هزَّه بكلماتٍ تفتح القلوب وتُربك العقول.سلك شمس الدين التبريزي طريق التصوف منذ شبابه، وأحبّه حبًا عميقًا.فقد بدت عليه النزعة الدينية منذ طفولته، إذ كان يقول: "إنّي أرى الله تعالى، وأرى الملائكة، وأبصر عالم الغيب. وكنت أظنُّ أن جميع الناس يُبصرون ما أُبصره، حتى إذا كبرتُ واختلطتُ بالناس، علمتُ أن فيَّ ما ليس فيهم."

وقد كان شمس الدين التبريزي مغرمًا بسيرة الرسول الكريم ﷺ إلى حدٍّ كان يمكث أربعين يومًا دون طعام، وهو يتدارس، دون أن يشعر بالجوع أو يلتفت إلى نقصه. كان شمس الدين التبريزي رجلًا يعيش بالروح قبل الجسد، ويرى في العالم ما لا يراه الناس. يروي أنه رأى في منامه رسول الله ﷺ يُلبسه الخرقة، وهي لباس أهل التصوف، فكانت تلك الرؤيا علامةً على ما في قلبه من سَيرٍ صادقٍ نحو الله.

كان يُجاهد نفسه مجاهدةً عظيمة، حتى سمع يومًا صوتًا لا يعرف من أين جاء، يقول له: "إنّ لنفسك عليكَ حقًّا." وكأنما السماء تخاطبه لتُعيد التوازن داخله. في داخل شمس، نفسٌ متمرّدة، نارٌ تشتعل بحثًا عن الحقيقة. وكان فيه شوقٌ لقيادة الروح إلى مكانٍ أعلى. شخصيّته كانت غامضة، تحمل أسئلةً أكثر من الأجوبة.ولم يسلم أحد من الصوفية من نقده اللاذع. ولم يستطع أن يكون مريدًا عند أحد، لأنه لم يجد شيخًا يفهم الضوء الذي في داخله، ولا القلق الذي يُحرِقه من أجل الوصول إلى الله.

كان يبحث عن تصوفٍ مختلف، ليس كما رآه في الزوايا، ولا كما سمعه من شيوخ زمانه. بل عن تصوفٍ يُشبع روحه، ويُفجّر في داخله نار العشق الإلهي. قال: " إن الطريقة التي نرى فيها الله، ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا.فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة، فهذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الخوف والملامة يتدفّق في نفوسنا. أما إذا رأينا الله مفعمًا بالمحبّة والرحمة، فإننا نكون كذلك."الطريق إلى الحقيقة يمرّ من القلب، لا من الرأس. فاجعل قلبك، لا عقلك، دليلك الرئيسي. واجه، تحدَّ، وتغلّب في نهاية المطاف على النفس بقلبك. فإن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله. يمكنك أن تدرس الله من خلال كلّ شيء، وكلّ شخص في هذا الكون. لأن وجود الله لا ينحصر في المسجد أو الكنيسة. لكنك إذا كنت لا تزال تريد أن تعرف أين يقع عرشه بالتحديد، فيوجد مكانٌ واحد فقط تستطيع أن تبحث فيه عنه: وهو قلبُ عاشقٍ حقيقي.

فلم يعِشْ أحدٌ بعد رؤيته، ولم يمت أحدٌ بعد رؤيته. فمن يجده، يبقى معه إلى الأبد. أراد مرّةً أن يغيّر الطريقة التي يعامله فيها الناس، فقال: "يجب أن يُغيّر أوّلًا الطريقة التي يُعامل بها نفسه." فإذا لم يتعلّم كيف يُحب نفسه حبًّا كاملًا صادقًا، فلا توجد وسيلة يمكنه أن يُحب بها غيره. لكنه، عندما يبلغ تلك المرحلة، سيشكر كلّ شوكةٍ ألقاها عليه الآخرون، لأنّ ذلك يدلّ على أن الورود ستنهمر عليه قريبًا.إن القذارة الحقيقية تقبع في الداخل، أما القذارة الأخرى، فهي تزول بغَسلها. ويوجد نوعٌ واحد من القذارة لا يمكن تطهيره بالماء النقي: وهو لوثة الكراهية والتعصّب التي تُلوّث الروح. نستطيع أن نُطهّر أجسامنا بالزهد والصيام، لكن الحبّ وحده هو الذي يُطهّر قلوبنا. الوَحدة والخلوة شيئان مختلفان:عندما تكون وحيدًا، من السهل أن تخادع نفسك، ويُخيّل إليك أنك تسير على الطريق القويم. أما الخَلوة، فهي أن تكون وحدك، من دون أن تشعر بأنك وحيد. لكن، في نهاية الأمر، من الأفضل لك أن تبحث عن شخص يكون بمثابة مرآة لك. تذكَّر: لا تستطيع أن ترى نفسك حقًّا، إلا في قلبِ شخصٍ آخر.

وبوجود الله في داخلك، لا فرق بين الشرق والغرب، أو الجنوب والشمالفمهما كانت وجهتك، اجعل الرحلة التي تقوم بها رحلةً إلى داخلكفإذا سافرت في داخلك، سيكون بوسعك اجتياز العالم الشاسع وما وراءه. لا تُقاوِم التغيُّرات التي تعترض سبيلك. دعها تحدث، ولا تقلق إذا قلَبتْ حياتك رأسًا على عقب، فكيف تعرف أن الجانب الذي اعتدت عليه، أفضل من الجانب الذي سيأتي؟

لا يعني الصبر أن تتحمّل المصاعب سلبًا، بل أن تكون بعيد النظر، بحيث تثق بالنتيجة النهائية. فانظر إلى الشوكة، لترى الوردة. وانظر إلى الليل، لترى الفجر.أما نفاد الصبر، فهو أن تكون قصير النظر، لا ترى النتيجة. فإن الساعي إليك حلالًا، لن يخونه دربه، وسيسوقه الله إلى دارك، مجرورًا من قلبه. يمكن لأي شخص أن يختارك في توهّجك، لكني أنا سأختارك حتى حين تنطفئينتأكّد أني، وإن رأيت النور في غيرك، سأختار عتمتك. عندما أخبرته أن قلبي من طين، سخر مني… لأن قلبه من حديد. قريبًا ستمطر… سيزهر قلبي… وسيصدأ قلبه. نحتاج بين فترةٍ وأخرى أن نختفي تمامًا، ولا يتمكن أحد من العثور علينا.
اقترب ممّن يفتحون في روحك نوافذ من نور، ويقولون لك: إنه في وسعك أن تُضيء العالم. قد يأتيك الحظ على هيئة شخص ترى نفسك من خلاله. لا تهتم كثيرًا بالكلام، ففي مدينة العشق، لا أهمية لأيّ لغة، ولا حاجة للكلمات أصلًا فالعشق صامت تمامًا. الحبُّ هو: ألا تخاف، وأنت في وسط بحر من الخوفأُحبّ الأشخاص الأقوياء، وخاصةً أولئك الذين تكمن قوتهم في رقّتهم وعطفهميجوز الربا في الحب: فمن أعطاك حبًّا… ردّه له ضعفين.

  مصير شمس الدين التبريزي يكتنفه الغموض. ولا يوجد إجماعٌ تاريخي حول كيفية وفاته. فقد ذكرت بعض الروايات أنه قُتِل في قونية، على يد بعض تلاميذ الرومي الذين غاروا من قربه الشديد من معلمهم، فدبّروا مكيدة لإبعاده، وقيل إنهم قتلوه ودفنوه سرًّا. وفي روايات أخرى، يُروى أنه غادر قونية فجأة، واختفى في سفرٍ روحي، دون أن يُعرف له أثر. يوجد ضريح في مدينة "خوي" بإيران، يُنسب إلى شمس التبريزي، ويُقال إنه قضى أواخر حياته هناك ودُفن فيها. لكن هذه الرواية تُناقض الرواية المشهورة حول مقتله في قونية. وبين هذه الروايات المتناقضة، يبقى شمس التبريزي رجلًا سرّيًا، يشعُّ غموضًا حتى في مماته، كما كان شعاعًا في حياته، يضيء طريق الروح والعشق الإلهي. هكذا كان شمس الدين التبريزي: ليس رجلًا عاديًّا يمشي في الطريق، بل نورًا سرىٰ في طُرق القلوب، وساحةِ الروح.

تبقى كلمات شمس سردًا لحقائق الروح، وبصيرته دليلًا لكل سالكٍ يبحث عن النور في ظلمات النفس. وفي نهاية هذه الرحلة، لا نملك إلا أن نهتف مع الرومي: "لولا شمس التبريزي، ما أشرقت شمس روحي."

سعيدة مهير
سعيدة مهير