أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

في البدء كان العنف

في البدء كان العنف

  

 حاولت الفيلسوفة والمنظرة السياسية حنة ارندت مقاربة ظاهرة العنف، في تحليلها السياسي  للشرط الإنساني من خلال كتابها " الوضع البشري" تنتقد ارندت الأوضاع الحديثة التي آلت إليها السياسة، وفقدت معناها الأصيل. فقد اعتبرت القرن العشرين قرن الحروب والعنف بامتياز، وقرن الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تستعين بالعنف لتحقيق مآربها وغاياتها، لا يدمر العنف حسب ارندت الحياة السياسية والمجال العمومي فقط بل يتعداها ليدمر الحياة نفسها.

  تنتقد ارندت في كتابها " في العنف " تمجيد سارتر للعنف في تقديمه لكتاب فرانز فانون "معذبو الأرض " أكثر من تمجيد صاحب الكتاب نفسه، سارتر اعتبر العنف جوهر الإنسان. تأبى ارندت إلا أن تغرد خارج سرب المفكرين الذين يماهون بين العنف والدولة. فالإنسان عرفه أرسطو بأنه كائن سياسي وكذلك ناطق، كما أن فالبدايات الأسطورية التي يحكيها التاريخ كان العنف هو البداية مثل: قابيل قتل هابيل، فأي بداية ترى آرنت كان لا بد من استخدام العنف فيها، حيث تقول: " إن أي أخوة تقدر عليها الكائنات الإنسانية قد نشأت عن قتل الأخ لأخيه، وأي تنظيم سياسي أنجزه البشر أصله في الجريمة".([1])

  نستطيع أن نقول بأن التفكير في ظاهرة العنف تدرج في إطار الفلسفة السياسية، وقد تطرقت حنة أرندت لمسألة العنف لكي تستكشف معنى العنف والدور الذي لعبه في تاريخ الإنسانية. غرضها ليس ضبط مفهوم العنف، بقدر ما هي مهتمة بتجسيد تاريخ الممارسة العنيفة وبالضبط التجربة النازية، والتجربة الستالينية. والمفارقة التي ترى حنة أرندت هو أن لا أحد يدعم العنف إلا أنه يسود.

 تركيز المنظرة السياسية على التجربة النازية والستالينية لأنها نماذج عنيفة، وهو أمر يعبر عن تفكير ماركسي أي الانطلاق من الواقع إلى الفكر(ماركس). كما أنها تطرقت إلى مظلومية اليهود، وكيف أن هذه الأنظمة تجعل العنف إيديولوجيا، فالعنف السياسي هو أخطر أنواع العنف والأنظمة المستبدة التي تقوم بتبريره إيديولوجيا.

    عرف القرن العشرين مجموعة من الأحداث والتحولات لنقل بأن القرن العشرين هو قرن الحروب والثورات، إنه قرن العنف بامتياز. " فالعنف صار أمراً عادياً جداً في المجتمع إن لم نقل مع بيير بورديو (P.Bourdieu) إنه محايث لنمط العيش والوجود الإنساني في القرن العشرين، بل غدا مقبولاً إلى حد لا يُطاق".([2]) لعبت الثورة التكنولوجيا أهمية فائقة في المجال العسكري حيث اكتشف الإنسان قوته التدميرية باكتشاف الطاقة الذرية هذه الأخيرة التي باستطاعتها تدمير العالم، لأن استعمال القنبلة النووية على اليابان أظهر للعالم أن الأمر ليس مجرد تهديد ومجرد كلمات وإنما إمكانية تنفيذها أمر واقع ( تهديد بوتين في الآونة الأخيرة).

                          شاهد الفيديو



 فهو (العنف)  بأمس الحاجة إلى الأدوات، حيث استخدمت كل الوسائل المتاحة بغية تحقيق غايات سياسية، أدوات تدميرية جد متطورة هذا التطور التقني غايته الحرب، فهذا التطور ضار أكثر من أنه نافع في الصراعات؛ والعنف سلاح فعّال وكما قال الثوري الشيوعي الصيني ماوتسي تونغ: " السلطة تنبع من فوهة البندقية". إن التطور التقني، هو تطور انتحاري للأسلحة الجديدة, فجيل القرن العشرين نشأ في أحضان القنبلة النووية وانتشار العنف الإجرامي في العمل السياسي...يظهر التنامي الظاهر في التقنيات والآلات والذي لا يمكن الوقوف أو التصدي له، فهو يهدد النوع الإنساني. حيث وصل الأمر بجيل القرن العشرين كما قالت حنة أرندت عندما تسأله سؤالين بسيطين: " كيف تريد للعالم أن يكون بعد خمسين سنة؟ وكيف تريد لحياتك أن تكون بعد خمسة أعوام؟ فالجواب سيكون :" شرط أن يظل العالم قائما"، و" أن أظل أنا على قيد الحياة". لقد كان هذا الجيل على عدم الثقة في مجيء المستقبل بل كانوا يسمعون دقات الساعة.

 لطالما قال ماركس بدور العنف في التاريخ إلا أنه كان يرى بأنه دور ثانوي، فماركس يرى أن الدولة هي أداة للعنف في يد الطبقة المسيطرة. وهو الأمر الذي يذكر بقولة هوبز: " إن المواثيق، في غياب السيف، ليست أكثر من كلمات", في القرن العشرين كانت رغبة جامحة في ممارسة السلطة هذه السلطة التي لا حدود لها ولا وازع يردعها.

فاستمرار السياسة لا يكون إلا عن طريق العنف، من خلال التفكير في الأحداث التاريخية والسياسية نلاحظ الدور الذي لعبه العنف في الشؤون البشرية. هذا العنف حسب حنة أرندت لم يكن أبدا ظاهرة هامشية، فقد لعب دوراً مهماً في تحقيق المطالبِ الاجتماعية إذا كان ضغط ودعم شعبي عريض للمطالب، فالعنف ظاهرة قائمة في ذاتها، وفقاً لحنة أرندت؛ كل سياسة تقوم على الصراع من أجل السلطة؛ والعنف وسيلة لتحقيق ذلك.

   إن الإنسان يميل إلى فرض نفسه ويجد لذة عندما يصبح الآخرين أدوات مطيعة لرغبته، يقول فولتير بأن السلطة: " تقوم في جعل الآخرين يتصرفون تبعا لاختياراتي". وفرض الإرادة حتى وإن قاومها الآخرين، فالسلطة شرطها الأساسي الأمر والطاعة، فجوهرها القيادة والسلطة الأكبر هي التي تنبع من فوهة البندقية، فالكائن البشري لديه غريزة حيوانية تنزع إلى السيطرة ونزعات عدوانية  حيوانية.

شاهد االفيديو




([1])حنة أرندت, في الثورة, ترجمة عطت عبد الوهاب؛ المنظمة العربية للترجمة, ص 25.

([2]) الفعل السياسي بوصفه ثورة, دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت, مجموعة مؤلفين, إشراف وتنسيق: د. محمد شوقي الزين؛ دار الفارابي, ط1, 2013,ص 210.

سعيدة مهير
سعيدة مهير