أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

دموع رابعة العدوية ودم الحلاج: قصة عشق خالد في التصوف

في التاريخ الصوفي، برز عاشقان إلهيّان لا يشبهان أحدًا: رابعة العدوية، المرأة الزاهدة التي جعلت من حب الله وحده غايتها، فرفضت أن تعبده خوفًا من ناره أو طمعًا في جنته. والحلاج، الصوفي الثائر الذي ذاب في عشق الله حتى صاح في الوجود: «أنا الحق»، فدفع حياته ثمنًا لعشقهقصتان مختلفتان، لكنهما يلتقيان في جوهر واحد: الحب الإلهي الذي لا ينطفئ. فلنكتشف كيف التقت العدوية والحلاج على درب العشق، وإن سلك كل واحد منهما طريقًا مختلفًا.

من هي رابعة العدوية؟ وُلدت في مدينة البصرة سنة 100 للهجرة تقريبًا، في أسرة فقيرة لا تملك من الدنيا شيئًا. كانت الطفلة الرابعة لأبويها، ولذلك سُمّيت "رابعة". عاشت طفولتها في زمن كثرت فيه الفتن والاضطرابات السياسية، لكن قلبها منذ الصغر كان معلّقًا بالله.

ابتُليت بمحن كثيرة، فقد مات والداها وهي ما تزال صغيرة. لكنها لم تستسلم، بل ملأت لياليها بالقيام والدعاء والدموع. يُروى أن سيدها كان يراها تصلّي طول الليل حتى الفجر، فاستحى من عبادتها وأطلق سراحها لتبدأ رحلتها في طريق الزهد والعبادة.

اختارت رابعةالعدوية أن تعيش في بيت صغير زاهد، لا تملك فيه سوى حصير قديم وجرّة ماء ومصباح يضيء عتمة الليل. لم تكن تطلب من الدنيا شيئًا، بل كانت ترى أن الغنى الحقيقي هو غنى القلب بالله.

اشتهرت بكلماتها التي قلبت موازين العبادة، إذ كانت تقول: اللهم إن كنت أعبدك خوفًا من نارك فاحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك لوجهك الكريم فلا تحرمني من رؤيتك. هذه الكلمات أطلقت ثورة روحية في مفهوم العبادة، فهي لم تعد قائمة على الخوف أو الطمع، بل على الحب الخالص لله.

لم تتزوج رابعة، مع أن الكثير من الرجال طلبوا يدها، بل كان منهم كبار العلماء والزهاد. لكنها رفضت، قائلة: «أنا مشغولة عن الزواج بحب الله، ولا مكان في قلبي لغيره». وبقيت على هذا الحال حتى آخر حياتها، حيث ماتت سنة 185 للهجرة تقريبًا، تاركة إرثًا عظيمًا في التصوف الإسلامي.

إن قصة العدوية ليست مجرد سيرة زاهدة، بل هي دعوة للعودة إلى صفاء العلاقة مع الله؛ علاقة تقوم على المحبة الصافية التي تخلو من أي مصلحة أو مجاملة. تُعدّ رابعة العدوية أول من نظّر لفكرة الحب الإلهي في الإسلام بشكل صريح. قبلها كان التركيز على الزهد والخوف من عذاب الآخرة، لكن العدوية رفعت التصوف إلى مرتبة العشق لله لذاته.

كان العلماء يزورونها ليستمعوا لحكمتها، ومن بينهم سفيان الثوري، الذي كان من كبار الفقهاء والزهاد، وكان يقول: «خذوا الحكمة من هذه المرأة العارفة بالله». كانت مجالسها مملوءة بالكلمة الطيبة والنصيحة التي تحيي القلوب.

رمزية دموعها: البكاء عند العدوية لم يكن ضعفًا، بل كان فيضًا من المحبة. قيل إنها كانت تبكي حتى تبلل سجادتها. ألهمت الكثير من الشعراء والمتصوفة بعدها، حتى إن جلال الدين الرومي وابن عربي وغيرهما ساروا على خطاها.

قيل إنها مرضت في آخر حياتها، وكان آخر دعائها: «اللهم إني ضعيفة فارحمني، وإني جاهلة فعلّمني». وماتت بهدوء في بيتها بعد أن تركت بصمة خالدة في التصوف والروحانية الإسلامية.

أما الحسين ابن منصور الحلاج، فقد وُلد في فارس ونشأ في بيئة دينية عامرة بالعلم والتصوف. منذ صغره أظهر ميلاً شديدًا للزهد والتأمل، فانخرط في حلقات الصوفية وجاب الأمصار طلبًا للمعرفة الروحية، متنقّلًا بين البصرة والكوفة ومكة، ثم قصد الهند وخراسان يبحث عن أسرار الطريق إلى الله.

لم يكن الحلاج صوفيًا عاديًا، بل عاش تجربته الروحية بجرأة غير مألوفة. بلغ به العشق الإلهي حدًّا جعله يذوب في محبوبه حتى محا ذاته فيه. ومن هنا جاءت عبارته الشهيرة: «أنا الحق». لم يقصد بها ادعاء الألوهية كما اتهمه خصومه، بل عبّر عن حالة الفناء في الله، حيث لا يرى العارف لنفسه وجودًا مستقلاً عن الحق.

لقد كان صوته صرخة عشق ملتهبة. بينما عبّرت رابعة عن المحبة بالدموع والخشوع، عبّر الحلاج عنها بالصيحة والثورة. كتب أشعارًا تموج بالوجد، فصار شعره ترجمانًا لأشواقه وأحواله الروحية، ومصدر إلهام للمتصوفة بعده.

لكن جرأته لم ترقَ للسلطة الدينية والسياسية، فقد اتهم بالزندقة والتحريض، وخيف من تأثيره على العامة، فحوكم محاكمة قاسية وحُكم عليه بالقتل صلبًا في بغداد. تروي المصادر أن الحلاج استقبل محنته بابتسامة الرضا، ثم قُطعت أوصاله وأُحرقت جثته، لتبقى قصته رمزًا للشهادة في سبيل الحب الإلهي.

لقد أصبح الحلاج في المخيال الصوفي شهيد العشق، مثلما كانت رابعة أيقونة المحبة، حيث ذابت في الله بالدموع، والحلاج ذاب فيه بالدماء. وهكذا يلتقيان: هي بدموعها الصامتة، وهو بصيحته الدامية، وكلاهما جسّد أسمى معاني الفناء في المحبوب الأزلي.

رابعة العدوية والحلاج، رغم اختلاف زمانهما ومكان نشوئهما، يلتقيان في جوهر واحد: العشق الإلهي الخالص. رابعة اختارت أن تعبّر عن حبها بالابتهال والدموع التي تبلل سجادتها، فكانت كل لحظة عبادة عندها ثورة من الحب الخالص. أما الحلاج، فعبر عن هذا الحب بالجرأة والفناء، صرخ به في وجوه البشر حتى دفع حياته ثمنًا لعشقه، فصارت صرخته ورمز استشهاده أيقونة للعشق الذي لا يهاب الموت.

يمكننا القول إن رابعة تمثّل الحب الهادئ والصفاء الروحي، بينما الحلاج يجسّد الحب الثائر والفناء الكامل في الله. ومع ذلك، فكلاهما ينير طريق العاشقين إلى الله، ويعلّم أن الحب الإلهي يتجلى بأشكال متعددة: دمعة، صلاة، صرخة، أو حتى دم.

في نهاية المطاف، يترك لنا هذان العاشقان درسًا خالدًا: أن الوصول إلى الله لا يُقاس بالخوف أو الطمع، بل بالحب الصادق الذي يحرر الروح. وهكذا تصبح حياتهما، أي دموع رابعة ودم الحلاج، لوحة روحية متكاملة تلهم كل من يطلب الحق ويعشق الله بصدق.

شاهد الفيديو

سعيدة مهير
سعيدة مهير