أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

قصة الصوفي أبو يزيد البسطامي و40 دينارًا غيّرت حياة عصابة كاملة | دروس في الصدق

قصة الصوفي أبو يزيد البسطامي و40 دينارًا غيّرت حياة عصابة كاملة | دروس في الصدق

تخيَّل غلامًا صغيرًا يُسأل من قِبَل مجموعة من اللصوص: هل معك مال؟ فيُجيب بثباتٍ مذهل: نعم، معي أربعون دينارًا ذهبًا.لم يكن هذا الغلام سوى أبي يزيد البسطامي، أحد أعلام التصوف الإسلامي، الذي غيّر بصدقه حياة عصابةٍ كاملة.في كل عصرٍ، يصطفي الله من عباده رجالًا خالصين، لا يخافون ولا يحزنون، قلوبهم مملوءةٌ بالمحبة، وأرواحهم مشدودةٌ إلى حضرته.ومن بين هؤلاء، يبرز اسمٌ لامعٌ وفريد: أبو يزيد البسطامي، رجلٌ عاش ليله ونهاره في مجاهدة النفس، وتطهير القلب، وطلب القرب من الله.

يقول عن نفسه: "مكثتُ ثلاثين سنة، كلما أردتُ أن أذكر الله، تمضمضتُ وغسلتُ لساني، هيبةً لاسمه."هكذا كان البسطامي: لا يذكر الله إلّا بعد أن يُطهِّر لسانه، لأن الذكر عنده لا يليق إلا بجلالٍ وطهارةٍ تامة.لذلك، لقّبه ابن عربي بـ"أبي يزيد الأكبر".لم يكن ممّن يُفتنون بالكرامات أو المظاهر، بل كان يقول:" لو رأيتم رجلًا يطير في الهواء، فلا تغترّوا به، حتى تنظروا: هل يحفظ أوامر الله؟ هل يلتزم بالشرع؟"فقد كان يؤمن أن الطريق إلى الله لا يُقاس بالخوارق، بل بطهارة القلب، والصدق في الطاعة، والتواضع أمام الحق.

شاهد الفيديو

من هو أبو يزيد البسطامي؟ اسمه الكامل: أبو يزيد طيفور بن عيسى بن  شروسان. واسمه "طيفور" يعني الطائر الذي لا يعلوه طائر، وكأنّ اسمه كان يُشير منذ البداية إلى علوّ مقامه، وسموّ روحه، وارتفاعه فوق الدنيا وهمومها.يُعدّ أبو يزيد واحدًا من أعظم أعلام التصوف الإسلامي، ومن أعمق العارفين بالله.
لم يكن صوفيًّا بالاسم فقط، بل رجلًا ذاب حبُّ الله في كل خليةٍ من جسده، حتى لم يبقَ في قلبه مكانٌ لشيءٍ سواه. كان زاهدًا، متواضعًا، لا يرى في الدنيا أيّ قيمة، وقال عنها: "لا تساوي عندي جناح بعوضة." فتركها لأهلها، وسار إلى الله بروحٍ خفيفة، وقلبٍ مشتاق. كثيرون تحدّثوا عن كراماته، وبعضهم وصفه بكلامٍ فيه شطحاتٌ صوفية أثارت الجدل، لكن الحقيقة التي اتفق عليها محبّوه وخصومه، أنه عاش عمره على بسط العبودية، مع الراكعين الساجدين، وأنه كان نبعًا صافيًا لطالبي الحقيقة.

ومن أروع ما قاله:

"عَرَجَ قلبي إلى السماء وطاف، ثم عاد. فقلت له: ماذا جلبتَ معك؟ فقال: المحبّة والرضا."

تخيّل قلبًا يطير إلى السماء، ويعود حاملًا أعظم ما يمكن أن يُهدى للروح: محبة الله والرضا بقضائه. لم يكن أبو يزيد منغلقًا على نفسه، بل كان مثالًا في التفاهم، والتسامح، والعيش مع الآخر مهما كان دينه أو طريقته.وذات مرة، مرّ على ديرٍ فيه راهبة، فقال لها:ـ هل يوجد هنا مكان طاهر أصلي فيه؟ فأجابته بعبارةٍ بليغة:

"طهّر قلبك، ثم صلِّ حيث شئت." عبارةٌ اختصرت فلسفة البسطامي كلها: طهارة القلب أهم من طهارة المكان، وصفاء النية أرقى من كل مظهرٍ خارجي.

وهكذا كان أبو يزيد رجلًا لم يرَ الله فقط في السماء، بل رآه في قلبه، في الناس، في كل شيء. عرف أن الصدق مع الله لا يُقاس بالمظاهر، بل بما تحمله القلوب من نورٍ وصدقٍ ومحبة. حين كان أبو يزيد غلامًا صغيرًا، تُوفي والده، فتكفّلت أمّه بتربيته. كانت أمًّا مؤمنة، عطوفة، باعت كل ما تملك من أجل مستقبله، فجمعت أربعين دينارًا ذهبية، وأعطتها له، وقالت: اذهب مع القافلة إلى الحجاز لطلب العلم.
وقبيل رحيله، قالت له وصيةً واحدة فقط:  عاهدني يا بُني ألّا تكذب أبدًا.فنظر  إليها، وقال بثبات: ـ أعدكِ يا أمي.انطلقت القافلة، وفي منتصف الطريق، هجم قطاع الطرق على الركب، وسرقوا أموال الجميع، واحدًا تلو الآخر. ثم جاء دور أبي يزيد، وكان فتى صغيرًا. فسأله أحد اللصوص ساخرًا: هل معك شيء؟ فقال ببراءة: ـ نعم، معي أربعون دينارًا ذهبًا. ضحك الرجل، وظنّه مجنونًا، فتركه دون أن يأخذ شيئًا. لكن حين اجتمع اللصوص بالغنائم عند زعيمهم، قال لهم:هل سرقتم كل شيء؟ قالوا: نعم، إلا غلامًا صغيرًا قال إنّ معه أربعين دينارًا.

تعجّب الزعيم، وقال: أحضروه إليّ.جاء أبو يزيد، وسأله الزعيم:
هل صحيح ما قلت؟ فأخرج الدنانير من ثيابه، وقال:ـ نعم. ذُهل الزعيم، وقال له: ما الذي دفعك للاعتراف؟ أما كنت تخاف أن نأخذها منك؟ فقال أبو يزيد بثقةعاهدتُ أمي ألا أكذب أبدًا، فكيف أخون عهدها؟ سكت زعيم اللصوص لحظة، ثم نظر إلى الأرض، وقال: "هذا غلامٌ يخشى أن يكذب على أمّه، ونحن لا نخشى أن نخون عهد الله!"

ثم نادى على رجاله، وقال: " تبتُ إلى الله على يد هذا الغلام." ورَدّ الأموال إلى أصحابها، وتاب معه سائر أفراد العصابة. هكذا، لم يكن أبو يزيد واعظًا بكلماته فقط، بل بصدقه. صدقٌ غيّر قلوبًا، وفتح طريق التوبة أمام قلوبٍ مظلمة.
فالصدق يُنجي، أمّا الكذب، فلا أمان له، حتى لو ظنه البعض طريق نجاة. في زمنٍ كثرت فيه الأقوال وقلّت فيه الأفعال، وقف أبو يزيد البسطامي ليذكّر الناس أن الطريق إلى صلاح النفوس يبدأ من الداخل، من القلب. كان يؤمن أن الإصلاح الحقيقي لا يكون بكثرة الكلام، ولا بالوعود، بل بالأخلاق، والمراقبة، والمحاسبة الذاتية: أن تراقب نفسك، وتحاسب قلبك، وتتجنّب الحرام، وتحرص على الحلال، وتكون صادقًا في كل حال. سأله رجلٌ يومًا: أوصِني.فقال له أبو يزيد: انظر إلى السماء.نظر الرجل. فقال له البسطامي: ـ أتدري من خلقها؟
قال: الله. فقال له:ـ إن من خلقها مُطّلعٌ عليك، فأينما كنتَ فاحذره.هنا، تتجلّى رؤية البسطامي: الله ليس بعيدًا عنك، بل هو أقرب إليك من نفسك. فكن صادقًا معه، ومع الناس، ومع نفسك. كان يرى أن المجتمع الصادق هو المجتمع القوي، لأن الكذب في نظره ليس مجرد خطأ صغير، بل خيانة: خيانة بين الحاكم والمحكوم، وخيانة بين الناس بعضهم لبعض، وخيانة أيضًا بين العبد وربّه.

يقول البسطامي:

"علامة انطماس البصيرة: أن تضيق بظلمة بيتك، وتنسى ظلمة قلبك." لم يكن البسطامي مجرد متصوف في صومعة، بل كان مشروع إصلاحٍ أخلاقي وروحي متكامل.كان يرى أن الحاكم يجب أن يكون صادقًا وأمينًا، والرعية كذلك، فبدون هذا الأساس تنهار المجتمعات، وتتفكك القيم. قضى حياته يدعو إلى نظام حياة يقوم على الصدق، ومحبة الله، والارتقاء بالروح. فلا عجب أن يكون له أكثر من أربعين مقامًا في دولٍ مختلفة: مصر، سوريا، إيران، الهند. دلالةٌ على أثره الذي تخطى الزمان والمكان. مات البسطامي عن عمرٍ ناهز الثالثة والسبعين، لكن أثره لم يمت، لأن كل من يزرع الصدق، يعيش في قلوب الناس بعد رحيله.

سعيدة مهير
سعيدة مهير