في هذا النص، سنتعرّف على رجلٍ من طرازٍ خاص، سلك
طريق الحبّ واليقين، ليترك لنا دربًا نسير عليه نحو الله، بقلوبٍ ملأها السلام
والطمأنينة. رجلٌ كان صادقًا في حبّه
لله، وعاش في دنيا الناس ولم يتركهم وحيدين في رحلتهم.هو
علي
بن عبد الله الشاذلي. وُلِد في مغرب الأرض، وسار
في طلب العلم والحقّ بين فاس وتونس ومصر، حتى استقرّ به الحال في الإسكندريّة.الإمام أبو الحسن
الشاذلي يُنسب في سلسلته النسبية إلى علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، وهذا الأمر متعارف عليه بين أتباع الطريقة الشاذليّة والصوفيّة عامّة، حيث يُعتبر نسب الشيوخ الصوفيّة إلى أهل بيت النبيّ،
عليه الصلاة والسلام، من علامات البركة والخصوصيّة الروحيّة.
في الروايات التي نقلها أتباع الشاذليّة، يُذكر أنّ
نسبه يعود إلى عليّ، رضي الله عنه، ممّا يعزّز مكانته الروحيّة والاجتماعيّة،
ويُظهر عمق ارتباطه بالتراث الإسلامي.كان الشاذلي
يبحث عن قُطبه ومرشده الروحي. وأثناء لقائه بالشيخ الواصل، كان لهذا اللقاء أثرٌ
كبيرٌ في مسيرة حياته. فقد زار الشاذلي العراق، والتقى
بـ أبي
الفتح الواسطي، فأبلغه أنّه جاء يطلب القطب، فقال له:
"أتطلب القطب بالعراق، والقطب ببلادك؟" فرجع إلى المغرب، حيث
التقى بمرشده الروحي الكبير، الإمام أبي محمد عبد السلام بن مشيش. كانت أوّل زيارة له لأستاذه في رأس الجبل، حيث كان
الإمام متعبّدًا زاهدًا، يعيش في خشوعٍ وسكينة. ويصف الشاذلي هذه اللحظة قائلًا: "لمّا قدمتُ عليه، وهو ساكنٌ برباطه
برأس جبل، اغتسلتُ وخرجتُ من علمي، وطلعتُ إليه فقيرًا، وإذا به هابطٌ عليّ، فلمّا
رآني قال: مرحبًا بعليّ بن عبد الله بن عبد الجبار"، وذكر نسبي إلى رسول الله. وأقمتُ عنده أيامًا، إلى
أن فتح الله على بصيرتي، ورأيت له خوارق وعادات.
تقوم الطريقة
الشاذليّة على التمسّك بالقرآن الكريم وسنّة النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وتحرص
على الجمع بين العلم والتصوّف، أي بين الشريعة الظاهرة والحقيقة الباطنة.وقد أوضح مؤسّسها الإمام أبو الحسن
الشاذلي أنّ السلوك في هذا الطريق لا يعني الانعزال عن الحياة، ولا ترك العمل أو
المسؤوليات، بل هو طريق الاعتدال والتوازن، بعيد عن الغلوّ والتشدّد، كما هو بعيد
عن التسيّب والانفلات.
فالمراد من الطريقة، أن يعيش الإنسان حياته بشكلٍ
سليم، في دنياه وأُخراه، وأن يجمع بين العبادة والعمل، وبين الذكر والحركة، وبين
القلب والعقل.ولهذا كانت
الشاذليّة تدعو إلى الصبر على أوامر الله، والثقة في هدايته، والتيسير في الطريق،
والبعد عن الغموض والتعقيد، واجتناب الشطحات المبالغ فيها، والدعوة الصادقة إلى
الجهاد في سبيل الله، كلٌّ حسب مقامه واستعداده.أمّا
الذكر، فهو أساس الطريق الشاذليّة، وخاصّة قول:
"لا
إله إلا الله"،
وكثرة الصلاة على النبيّ، عليه الصلاة والسلام.
لكن الملفت في الطريقة الشاذليّة، أنّ الإمام
الشاذلي لم يشترط وجود شيخٍ أو مرشدٍ دائم، بل قال إنّ السالك إذا صدق في طلبه،
فإنّ الله يهديه، حتى لو لم يتّصل بشيخٍ بعينه.كما
أنّه لم يشترط العزلة عن الناس، ولا الدخول إلى الزوايا، بل يمكن للإنسان أن يسلك
إلى الله، وهو في وسط الناس، يعمل ويُعاشر، ويذكر الله في قلبه.وتعود أصول الطريقة الشاذليّة إلى
الإمام الجنيد
البغدادي، الذي يُعدّ من كبار الصوفيّة الذين جمعوا بين السنّة
والتصوّف. ولهذا، تُعتبر الشاذليّة امتدادًا لطريق الجنيد، أو تجديدًا له.
ولأنّ هذه الطريقة مستمدّة من نور النبي، ولأنّها
تقوم على الاعتدال، فقد انتشرت في أنحاء العالم الإسلامي.وكما
كان الإمام الشاذلي مجاهدًا في سبيل الله، حريصًا على نصرة الإسلام والمسلمين، فقد
كان أيضًا يدعو أتباعه إلى السعي والعمل، وعدم التواكل.فالرزق
لا يأتي بالتمنّي، بل بالسعي في الأرض، مع قلوب متوكّلة على الله، وأيدٍ تبني
وتعمر.وكان يُعلّمهم
أن طلب المعاش لا يُنافي التوكّل، وأنّ العمل في سبيل الرزق من جهاد النفس، ما دام
صاحبه مخلصًا لله، يذكره في كل حال.وفي نظرتها إلى
الغنى والفقر، كانت الطريقة الشاذليّة تميل إلى تفضيل الغنيّ
الشاكر على الفقير الصابر،
وقد برّرت هذا التوجّه بقولها:
إنّ الصبر على الفقر فضيلة دنيويّة تنتهي بانتهاء
الحياة، أمّا الشكر على النعمة، فهو خُلق يُثمر في الدنيا والآخرة، إذ يشهد صاحبه
فضل الله، ويقرّ به، فيزداد قربًا ورضا.فالمال، في نظر الشاذليّة، ليس عيبًا إذا لم يسكن
القلب، بل يصبح وسيلةً للشكر والعطاء وخدمة الخلق، ما دام صاحبه ذاكرًا لله،
معترفًا بفضله.وكان الإمام
الشاذلي ينفر من المريد الذي يُعطّل نفسه، ويتكفّف الناس، وكان يرى أن السؤال
يُفقد القلب عزّته، ويضعف الصلة بالله.ولذلك، كان
كثيرًا ما يحثّ أتباعه على العمل والسعي، ويقول لهم:
"عليكم
بالسبب."فالتصوّف
عنده، ليس توكّلًا ولا تعطيلًا للحياة، بل هو أن تسير إلى الله بقلبك، وأن تعمل
بيدك، وتكسب رزقك بكرامةٍ وصدق.
ويروي أبو العباس المرسي،
تلميذ الإمام الشاذلي، موقفًا مؤثرًا، يكشف عن شدّة وَرَع الشيخ وزُهده في المال
والعطاء، فيقول: "دخلتُ يومًا على الشيخ أبي الحسن،
فقال لي: إن أردتَ أن تكون من أصحابي، فلا تسأل أحدًا شيئًا، وإن جاءك شيءٌ من غير
سؤال، فلا تقبله."فكان
يُربّي مريديه على عِزّة النفس، والتوكّل الكامل على الله، حتى لا تتعلّق قلوبهم
بأحدٍ سواه. أبو الحسن الشاذلي،
في نظر الصوفيّة، قد رفعه الله في قلوب العارفين، فقد قال عنه الإمام ابن
عطاء الله السكندري: "ما رأيتُ رجلًا أقرب إلى الله، ولا أرقّ قلبًا، ولا أفصح
لسانًا من سيّدي أبي الحسن."وبعد
وفاة الإمام الشاذلي، تولّى الطريقة من بعده تلميذه الأقرب، وأحبّ الناس إلى قلبه،
أبو
العباس المرسي، الذي لم يكن فقط تلميذه، بل كان أيضًا صاحبه وزوج
ابنته. وقد أوصى الإمام الشاذلي
أتباعه به في أيامه الأخيرة، فقال لهم: "إذا
أنا متّ، فعليكم بأبي العباس المرسي، فهو خليفتي من بعدي." وكانت هذه الوصيّة دليلًا
على المكانة الروحيّة العالية التي بلغها أبو العباس، وعلى الثقة التي وضعها فيه
شيخه ومعلّمه.
وداخل جدران مدرسة الشاذليّة، استطاع هذا الرجل أن
يُربّي الرجال، ويُعلّمهم منهجه وطريقته.لكنه
لم يضع كتبًا، فلمّا سُئل: لماذا لم تضع كتبًا؟قال: "كتبي
أصحابي."هذا الجواب يُجسّد نظرة الشاذلي للتربية الصوفيّة، على أنّها ليست حروفًا تُسجَّل، بل
أرواحًا تُشكَّل.لم يُرد أن
تكون طريقته مجرّد نصوصٍ تُقرأ، بل رجالًا يُمثّلون الحضور الإلهي في السلوك
والتزكية والعمل.
كان قلبه متّصلًا بالله، حتى في أنفاسه الأخيرة،
وكأنّه كان يعلم أنّ رحلته إلى الحجّ، ستكون الرحلة الأخيرة.ففي
تلك الرحلة التي لم يُكتب له أن يتمّها، كان يسير بثبات العارفين، وقد أخبر أصحابه
أن يحملوا معهم ما يُجهَّز به الميّت.وما كان ذلك
بسبب ضعفٍ أو خوف، بل كان نتيجة علمٍ وفهمٍ عميق، وبصيرةٍ واضحة، فكأنّه كان
يُودّع الدنيا، وهو موقن بلقاء محبوبه.
لقد كان شاذليًّا، رحمه الله، مباركًا تقيًّا، لا
تُغره الكرامات الظاهرة، ولا يُفتن بها، بل كان يراها دون مقام العمل والإخلاص. وكانت أعظم كراماته، تلك
التي لا تراها العيون، ولكن تحيا بها القلوب:
هداية الناس
إلى الله، وغرس محبّته في صدورهم، ودعوتهم للسير على نور الكتاب والسنّة. فتلك كرامة لا يُؤتيها
الله إلّا لأوليائه الصادقين.
تقوم الطريقة الشاذليّة على أصولٍ راسخة، هي بمثابة
مفاتيح للسير إلى الله، ومناراتٍ للمريد في طريقه.وقد
لخّصها الإمام الشاذلي في خمس تعاليم عظيمة: تقوى الله في السرّ والعلانيّة، فلا يُفارق القلب
مراقبة الله لحظة واحدة.اتّباع السنّة في الأقوال والأفعال، اقتداءً بالنبيّ. الإعراض عن الخَلق في
الإقبال والإدبار، أي لا تُفرحك مدحهم، ولا تُحزنك ذمّهم، فوجهتك إلى الله وحده. المعرفة والحب، خصْلتان
تُسهّلان الطريق إلى الله. الرضا عن الله في القليل
والكثير، تسليمًا لحكمته، وتفويضًا لأمره، والرجوع إليه في السرّاء والضرّاء، فلا
ملجأ للمحبّ إلّا إلى محبوبه، في النعمة والبلاء، في الفرح والبكاء. بهذه التعاليم، ترتقي النفس ويتزكّى القلب، ويسير
السالك في طريق الصدق والمحبّة
