في تاريخ
التصوف، لا توجد شخصية أثارت الحب والخوف، العجب والإدانة، مثل ما فعل الحسين بن منصور الحلاج وُلد في القرن الثالث الهجري، وعاش
حياةً من الزهد والبحث العميق عن الله. لم يكتفِ
بالأوراد والظاهر، بل غاص إلى أعماق الروح، وارتشف من كأس العشق الإلهي حتى
الثمالة لم يكن الحلاج مجرد شاعر أو متصوف، بل
كان عاشقًا أفناه الحب في من أحب، حتى قال كلمته التي دوت في الآفاق: "أنا
الحق"، لم يقصد بها ادعاء الألوهية — حاشا لله — بل عبّر عن حال الفناء الكامل،
حيث تتلاشى ذات العبد، فلا يبقى فيه إلا نور الحق.
قُدِّم للمحاكمة، واتُّهِم بالزندقة، ثم صُلِب
وقُطِّع جسده، ولكن كلماته ظلّت خالدة، تتوهج في قلوب العاشقين حتى اليوم. وها نحن، بعد أكثر من ألف عام، ما زلنا نردد قصائده، ونخشع لسره،
ونتساءل: ما هو هذا السر؟ ما الذي
يجعل من الحلاج أيقونة في العشق والفداء؟ لنقرأ معًا واحدة من أعمق قصائده، حيث يذوب العاشق
في معشوقه، ويصير الروحاني جسدًا واحدًا:
أنا من أهوى،
ومن أهوى أنا،
نحن روحانِ،
حللنا بدنا،
نحن مذ كنا على عهد الهوى،
تُضرب
الأمثال للناس بنا،
فإذا
أبصرتني، أبصرته،
وإذا أبصرته،
أبصرتنا،
أيها السائل
عن قصتنا،
لو ترانا، لن
تفرّق بيننا،
روحه روحي،
وروحي روحه،
من رأى
روحين، حلّت بدنًا؟
في هذه
الأبيات الصوفية، يعبر الحلاج عن تجربة روحية عميقة، تختفي فيها حدود
"أنا" و "هو"، ليتحد العاشق بمعشوقه في حالة من الفناء. هو لا يرى نفسه منفصلًا عن المحبوب، بل يشعر أن روحه وروح محبوبه قد
ذابتا في بعضهما، حتى صارتا روحًا واحدة تسكن جسدين. يصف هذا الاتحاد بلغة الحب، لا كحب بشري محدود، بل كحب إلهي لا يعرف
الفصل ولا المسافة. يقول: من يرى أحدنا،
فكأنما رأى الآخر. ومن تأمل فينا، لا يستطيع أن يفرّق بين العاشق والمعشوق. لأنهما تلازما في عالم الأرواح، وصارا انعكاسًا لوحدةٍ إلهيةٍ لا تُفهم
بالعقل وحده. ولهذا، فإن كلماته قد تبدو
غريبة لمن ينظر بعين العقل فقط، لكنها تصبح نداءً من عالم آخر لمن يقرؤها بقلبه.
لم يكن
التصوف عند الحلاج مجرد مسلك فردي، بل كان طريقًا يجمع بين الجهاد الروحي والنضال
الاجتماعي. فقد جعل من التصوف وسيلة
لتحرير النفس من الهوى، ودعوة لإصلاح المجتمع، ورفضًا للطغيان والظلم. ولهذا، خافت منه السلطة، واتهمته بالزندقة، ثم حكمت عليه بالصلب وتقطيع
الأوصال. لكن الجماهير، لا سيما البسطاء،
رأوا فيه رجلًا من نور، شهيدًا للعشق والحق معًا. وعلى الرغم من الصورة السلبية التي رسمها بعض علماء السنة والشيعة، فإن
الذاكرة الصوفية احتفظت له بصورة مشرقة.
فقد تلقى تعليمه الروحي المبكر على يد كبار
مشايخ التصوف السني، مثل الجنيد البغدادي، وأبي الحسين النوري
ودافع عنه لاحقًا الإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه
"مشكاة الأنوار"، حيث فسّر عباراته التي أسيء فهمها. وأكد أنها تعبير عن
الفناء في الله، لا عن ادعاء الألوهية. وقد أشار عدد من المستشرقين والباحثين
الغربيين إلى أهمية الحلاج ودوره البارز في تشكيل النزعة الروحية في الإسلام. وقالوا إنه رمز للتصوف الثائر الذي يتجاوز الطقوس، ليعبّر عن عشق مطلق
للحقيقة الإلهية. في أواخر أيامه، مثل
الحلاج أمام مجلس القضاء في بغداد، بعد أن اشتدت عليه التهم، وكثرت الشكاوى.
حضر المجلس
عدد من القضاة والفقهاء، وجِيء بالشهود ليشهدوا عليه، واتُّهم بالشرك والزندقة.لكنه وقف
بثبات، ونفى كل التهم، وقال: "أعوذ بالله أن أدّعي الربوبية أو النبوة. إنما
أنا رجل أعبد الله، وأُكثر له من الصوم والصلاة، وفعل الخير."ثم أكثر من
ذكر الشهادتين، مرددًا بتذلل وتوبة: "سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءًا
وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنك أنت الغفور الرحيم." لم يكن دفاع
الحلاج فلسفيًّا، بل كان نابعًا من صدق العارف وتواضع العاشق.لم يتوسل
بعلمه أو بمنزلته، بل بالانكسار والدعاء، وكأنه في حضرة الله، لا في محكمة البشر.لقد تجاوزت
قضيته حدود المحاكمة، وتحولت إلى حدث ديني وسياسي وروحي ضخم.صار الحلاج
بطلًا شعبيًّا، وأيقونة للعشق والتجرد، وجذب الجماهير الذين تهافتوا على كلماته،
وتأثروا بكراماته. وعندما صُلِب، ترك الناس الأسواق،
وانشغلوا بموته، وكأنها لحظة مقدسة
لم يعد موته
نهاية، بل بداية أسطورة روحية، خلدته في قلوب العاشقين. وهكذا، ختم الحلاج حياته كما بدأها: في العشق، ومع
العشق، وفي سبيل العشق. ما كان مجرد شاعر، ولا مجرد زاهد، بل كان نارًا احترقت
من أجل الحق، ومِرآةً صافيةً للفناء في الله. في كل بيت من قصيدته "أنا من أهوى"، كان يشير إلى وحدة
الوجود.وفي كل خطوة في محكمته، كان يثبت أن العشق الصادق أشرف
من الحياة بذلها.مات الحلاج، لكن لم تمت كلماته، وظلت تهب كريح نايٍ
صوفي، تناديك:
"أنا من أهوى، ومن أهوى أنا... فهل سكنتَ يومًا ذاتك حتى
سمعتَ نبض العشق فيها؟