ظلت الفلسفة منذ آلاف السنين تطرح أسئلة جوهرية حول معنى الحياة والوجود الإنساني، باعتبارها حقلاً تأمليا يبحث عن الحقيقة والحكمة والسعادة. فهي تفكر في المشكلات البشرية العميقة، فالفلسفة بكل تأكيد ليست مجرد ترف فكري أو نشاط نظري يخص فئة أو نخبة معينة، بل هي حاجة إنسانية، تمثل فنًّا للعيش وتمريناً على فهم الذات والعالم. ولهذا، يقول الفيلسوف الفرنسي ومؤرخ الفلسفة القديمة، بيير آدو ما يلي: " لم تكن الفلسفة...تجريداً نظرياً وبناءً مذهبيا، بل كانت فنا للعيش وطريقة حياة، وعزاءً ومواساة، وممارسة علاجية"[1]. هكذا، تتجلى الفلسفة ليس كمجرد تأمل بعيد عن هموم الإنسان اليومية.
لذلك، تمتلك الفلسفة أدوات فكرية وعملية من
شأنها أن تساعد الإنسان على مواجهة مشاعر الحزن، البؤس، وحتى الاكتئاب، مما يعني
أن مهام الفيلسوف لا ترتكز فقط على إيصال ونقل معارف موسوعية أو بناء أنساق فكرية
معقدة، بل تكمن في تعليم فن العيش، وتطبيق المبادئ الفلسفية على أرض
الواقع في الحياة اليومية بشكل عملي، لا بالقول فقط بل بالفعل. وقد عبر بيير
آدو عن ذلك بوضوح حين قال: "وقد كان الفيلسوف في العصر
القديم يعد نفسه فيلسوفا لا لأنه يشيد خطابا فلسفيا بل لأنه يعيش على نحو
فلسفي"[2].
إن الفلسفة لا تفصل بين الفكر والممارسة، حيث" كانت الفلسفة في العصر
القديم علاجا للانفعالات المرضية: الأهواء المنفلتة والمخاوف التي تسيطر على
الإنسان وتحرمه من أن يعيش حياة حقيقية"[3].
في ظل التعقيدات المتزايدة
التي يشهدها العالم المعاصر، وضغوطات الحياة اليومية، أصبح الاكتئاب واحداً من الأمراض النفسية التي تعرف انتشاراً واسعًا. ولم يعد مجرد اضطراب نفسي يؤثر على
طريقة التفكير والتصرف فقط، بل تحوّل إلى أزمة وجودية حقيقية يعيشها
الإنسان الحديث، بكل ما تحمله كلمة هذه العبارة من ثقل ومعاناة. لقد بات السؤال الجوهري
الذي يؤرق الإنسان اليوم هو: كيف يمكن العيش في
عالم فقد معناه؟ الإنسان المعاصر يعيش في عالم خالٍ من المعنى، فرغم
التطور التقني، والضجيج المستمر للحياة الرقمية، لم تستطع هذه الأدوات أن تسدّ
الفراغ الداخلي الذي يشعر به الكثيرون. فالصراع لم يعد خارجيا فحسب، بل هو صراع
داخلي مرير، تعجز ضوضاء الحياة المعاصرة عن إسكاته أو مداواته.
إن الاكتئاب مرض صامت يلتهم الإنسان من
الداخل دون صوت، وقد أصبح اليوم من أثقل
الأعباء النفسية التي تصيب مختلف الفئات العمرية. وأعراضه تختلف من شخص إلى آخر،
كما أن عوامله تراوحت بين ما هو وراثي، بيئي، صحي، واقتصادي. ومن هنا يأتي دور الفلسفة
باعتبارها النور الذي يضيء هذا الظلام الداخلي، إذ تدعو الإنسان إلى الإصغاء للذات
وأعماقها، وإعادة المعنى لما يبدو بلا معنى. لطالما كانت الفلسفة ترويضاً للحزن،
وتجعل من الألم محطة لعبور الذات واكتشافها. قد يعجز الإنسان أحياناً كثيرة عن
الفرح، ولكنه لا يعجز عن طرح الأسئلة الكبرى، وهذا ما يجعل الفلسفة ضرورية في
مواجهة الفراغ الوجودي.
الفيلسوف سقراط، جعل من الوعي
بالذات محور تفكيره الفلسفي فقولته الشهيرة "
اعرف نفسك بنفسك" كانت شعاراً لفلسفته، لم يكن يسعى لتلقين مذهب
معين، بل كان يدعو إلى حياة يقظة، وضمير حي، وتأمل نشط. إن معرفة الذات، في ظل
الاكتئاب، وهو إن صح القول خلل من الداخل غير مفهوم، تساعد على كشف الجذور العميقة
للألم، فيصبح ذاك الشيء المبهم واضحاً، فتبدأ عملية الشفاء النفسي والروحي. وقد
قال بيير آدو عن سقراط ما يلي: " لم يكن لدى
سقراط مذهب يعلمه. لقد كانت فلسفته برمتها تدريبا روحيا، دعوة إلى طريقة جديدة في
العيش، إلى تأمل نشط, وضمير حي"[4].
يُعتبر الطبيب
النمساوي فيكتور فرانكل (1905 1997)، من أبرز الأسماء في علم
النفس الوجودي، وهو مؤسس ما يُعرف بالعلاج بالمعنى. وقد استمد نظريته من تجربة شخصية قاسية
فقد كان أحد الناجين من معسكرات الاعتقال النازية، حيث فقد والده، أخاه، وزوجته،
ونظراً للظروف التي مر بها في هذه المعسكرات, أسس نظرية العلاج بالمعنى، لأنه لاحظ
بأن الذين صمدوا نفسيا هم أولئك الذين يملكون هدف وسبب للعيش أي من يمتلكون معنى
يربطهم بالحياة رغم الآلام. إن العلاج بالمعنى يقوم على مساعدة الإنسان
في اكتشاف الغاية التي تجعله يتشبث بالحياة، سواء كانت حباًّ، عملاً، إيماناً، أو
رسالة إنسانية. فحين يفقد الإنسان هذا المعنى، يبدأ في الانهيار نفسيا، ويقع فريسة
للفراغ الوجودي. وبالتالي، يدعونا فرانكل إلى أن نبحث عما يليق بنا، عمّا يمنح
حياتنا اتجاها، ويضيء عتمة العبث واللاجدوى.
إن فقدان الأمل
في مستقبل أفضل قد يعرض الإنسان لانهيار نفسي وجسدي، ويفقده توازنه الداخلي. فحين
يغيب المعنى، ويخفت الأمل، يصبح الإنسان هشا أمام ضربات الحياة، وتتحول إلى عبء
ثقيل لا يحتمل. لهذا قال الفيلسوف الألماني فريدريك نتشه: "
من يملك سببا يعيش من أجله فإنه يستطيع غالبا أن يتحمل بأية طريقة بأي حال".
نتشه يدافع عن إرادة القوة، يرى أن الإنسان يجب أن تكون له رغبة
التفوق حاضرة، ويحقق ذاته ويتخطى ضعفه من خلال خلق معنى خاص به. ف’ الإنسان الأعلى‘
عند نتشه هو من لا يستسلم للعبث، يواجه الحياة بكل قوة وشجاعة، ويخلق
لنفسه هدفًا يسمو به عن الألم والانكسار. وهنا يتقاطع فكر نتشه مع ما أكده فيكتور
فرانكل حين قال: " فالويل لمن لا يرى في حياته معنى، ولا
يستشعر هدفا أو غرضا لها؛ ومن تم لا يجد قيمة في مواصلة هذه الحياة وسرعان ما يحس
بالضياع"[5].
يعتبر الأمل، في نظر
فيكتور فرانكل، أحد المداخل الأساسية للعلاج النفسي، هناك من يتشبث بالحياة من أجل
الأسرة أو المكانة الاجتماعية...ومن بين هذه الأسباب، يحتل الحب مكانة
محورية، إذ يقول فرانكل:" الحب هو الطريقة الوحيدة التي يدرك بها الإنسان
كائنا إنسانيا آخر في أعمق أغوار شخصيته. فلا يستطيع إنسان أن يصبح واعيا كل الوعي
بالجوهر العميق لشخص آخر إلا إذا أحبه"[6].
إن الحب الحقيقي كما يراه فرانكل، هو الذي يمنح الوجود الإنساني عمقاً ومعنى، كما أنه
الطريق الوحيد الذي يمكن من إدراك كينونة الآخر. الحب يجعلنا
نخرج من ذواتنا، يساعد الإنسان على الخروج من سجن الذات والعبور نحو الآخر.
ففيكتور فرانكل أثناء
وجوده في معسكرات الاعتقال النازية وهي أحلك لحظات حياته، كانت صورة زوجته
لا تفارقه، لأنها تمثل المعنى الذي يتشبث به من أجل الاستمرار والصمود في وجه
القسوة والوحشية. لذلك فالحب يمنح للعالم معنى، وهو ما عبر عنه أيضا محيي الدين ابن عربي حين جعل من الحب جوهراً للوجود وسرا من أسرار الخلق،
فالوجود في نظره لا يكتمل إلا من خلال الحب، الذي يضفي على الحياة لونا، وشكلا، وغاية.
فهو يساعد على التخفيف من أعراض الاكتئاب حيث يصبح من بين الأسباب التي تجعل للإنسان
رغبة في الاستيقاظ ومواصلة الرحلة والابتسام، لأنه يعيد الاتصال بالحياة ويشعل
الرغبة في العيش، عندما يحب الإنسان ويبادله الطرف الآخر الحب، فهو بذلك ينظر إلى
الحياة بعين الرضى والاكتفاء.
"
وقد أجري في فرنسا، منذ عدة سنوات، استطلاع للرأي العام. وقد أظهرت النتائج أن 89%
من الأشخاص المستفتيين قد أقروا أن الإنسان يحتاج ’شيئا ما‘ لكي يعيش من أجله.
وبالإضافة إلى ذلك فإن 61% منهم يسلمون بأنه كان يوجد شيء ما أو شخص ما في حياتهم،
والذي من أجله كانوا على استعداد حتى للموت"[7].
حسب فرانكل المعنى ليس اختراع ولكنه اكتشاف. دور الإنسان هو أن يكتشف المعنى من
خلال تجربته الخاصة الفردية، حسب فرانكل حتى الألم له مغزى هو درس، وقصة ذات جدوى.
يرى
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، أحد أعمدة الفلسفة الوجودية، أن الوجود يسبق الماهية،
أي أن الإنسان يوجد أولا، وبعد ذلك يعرف نفسه من خلال أفعاله، اختياراته،
ومسؤوليته. مما يعني أنه لا يوجد معنى سابق للحياة، ولا غاية جاهزة خلق الإنسان من
أجلها، يبدع معناه بنفسه، لأن المعنى يصنع ويخترع أثناء الحياة، من خلال
التجربة، العمل، وحتى الألم والمعاناة. يتمتع
الإنسان في فلسفة سارتر بحرية جوهرية، لكنها ليست مطلقة. "
فالإنسان, وفقا لجان بول سارتر يخترع نفسه ويصمم جوهره أي يبتدع حقيقة ماهيته، بما
في ذلك ما ينبغي أن يكون عليه أو يصير به"[8].
" لا ريب في أن الكائن الإنساني هو شيء متناه، وأن حريته مقيدة، وليست هذه
الحرية تحررا من الظروف، ولكنها حرية اتخاذ موقف إزاء هذه الظروف"[9].
وهكذا تصبح الحرية مسؤولة، ويغدو المعنى مشروعا شخصيا، وهذا ما يجعل الفلسفة
الوجودية دعوة صريحة إلى التحرر من المعاني الجاهزة، وخلق حياة ذات مغزى خاص
وفريد.
" وأعتبر أنه تصور خاطئ وخطير للصحة النفسية الزعم بأن ما يحتاجه الإنسان في المحل الأول هو التوازن، أو كما يعرف باستعادة الاتزان في البيولوجيا، أي ’ حالة اللاتوتر ‘ ولكنه يحتاج إلى السعي والاجتهاد في سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله"[10]. " ويكشف هذا الفراغ الوجودي عن نفسه أساسا في حالة الملل. هنا نستطيع أن نفهم ’ شوبنهاور‘ حينما قال أن الإنسانية حكم عليها بشكل واضح أن تتأرجح إلى الأبد بين طرفين أحدهما الضيق والآخر الملل"[11]. الملل هنا لا يتعلق بنشاط معين أو روتين يومي، بل هو ملل من الوجود ذاته، علامة واضحة على القلق الوجودي الذي يفتح الباب أمام التفكير التشاؤمي والسوداوي.
يترافق هذا
الملل مع أعراض الاكتئاب النفسي، مثل الشعور بالحزن، فقدان المتعة، اضطرابات
النوم، والإحساس باللاجدوى. لكن في وجه هذا الظلام، تقترح الفلسفة وخاصة مع فرانكل
العلاج بالمعنى. " إن العلاج بالمعنى يحاول أن يجعل المريض واعيا كل الوعي
بالتزامه بمسؤوليته؛ ولذلك يجب أن تترك له حرية اتخاذ القرار بشأن إدراكه لنفسه
كشخص مسؤول يتحمل مسؤوليته باختياره لأهدافه في الحياة"[12].
وبالتالي، فإن الملل والفراغ الوجودي يمكن أن يفهما لا كعلامة ضعف، بل كتنبيه
داخلي يدعو الإنسان إلى البحث عن التغيير، وإعادة اكتشاف ذاته، واستعادة شغفه
بالحياة.
إن المعاناة هي
شيء سيء ولكن تقبلها وتأملها يكسر شوكتها، فالشرور والصعوبات التي تقف في وجه
الإنسان وتعكر صفو حياته هي جزء من مسار الطبيعة. وبمجرد أن يستوعب المرء هذا
الأمر، يكون من السهل عليه تحمل الشدائد والتكيف معها مهما كانت صعوبتها. هذا
بالضبط ما تعلمنا إياه الفلسفة الرواقية، التي انتشرت في العالم وكان
لها تأثير عميق على الفكر الإنساني بفضل مفكريها الكبار مثل ماركوس أوريليوس،
سينيكا، وابكتيتوس. لم تكن رؤيتهم مجرد تأملات نظرية، وإنما هي طريقة
للعيش وسط الألم والظلم والاضطراب.
" فحينما يجد
الإنسان أن مصيره هو المعاناة، فإن عليه أن يتقبل آلامه ومعاناته كما لو أنها مهمة
مفروضة عليه وهي مهمة فريدة ومتميزة. وعليه أن يعترف بالحقيقة بأنه حتى في
المعاناة فهو فريد ووحيد في الكون. ولا يستطيع أحد أن يخلصه من معاناته أو يعاني
بدلا منه. ففرصته الفريدة تكمن في الطريقة التي يتحمل بها أعباءه ومتاعبه"[13].
المعاناة ضرورة الحياة الدنيا لا يستطيع الإنسان أن يدير ظهره لها، لأن هناك آلام
كثيرة وألوان مختلفة من المعاناة على الإنسان تحملها وتقبلها.
بدلاً من محاولة تغيير
العالم الخارجي، تدعو الفلسفة الرواقية الإنسان إلى البدء بتغيير نفسه
أولا. فالرواقي لا يرفض الألم، بل يتقبله كجزء من الطبيعة، بتقبل المرض،
الموت، الفقد، باعتبارها جزء من دورة الحياة؛ لا بوصفها مصاعب يجب الهروب منها، بل
هي حقائق طبيعية لا مفر منها. لا يرى الرواقي نفسه ضحية للظروف، بل عندما تحدث المصاعب
يتساءل عن كيفية مواجهتها بطريقة فاضلة، يقول الفيلسوف الروماني سينيكا: "لا تقل لقد
ضاع كل شيء، بل قل: لدي فرصة لأن أظهر ثباتي" من هذا المنظور، فإن
المعاناة ليست نقمة، بل فرصة لصقل الشخصية وبناء القوة النفسية.
نحن اليوم بحاجة إلى استلهام الدروس من الفلسفة
الرواقية القديمة، التي نشأت في الرواق الأثيني، فالرواقي لم يجعل سعادته متوقفة
على أحد لأن سعادته بيده هو، تنبع من داخله. في عالمنا المعاصر، الذي يلهث ويركض
خلف اللذة السريعة والمكاسب الفورية، تذكرنا الرواقية بأن الفضيلة هي
الطريق الحقيقي إلى السعادة، وأن العيش الأخلاقي هو ما يمنح للحياة معناها الأعمق.
يقول ماركوس
اوريليوس، الإمبراطور الروماني الذي يعد من أحد أعظم الفلاسفة الرواقيين،
حيث كان يلقب بالفيلسوف الإمبراطور نظرا لأنه جمع بين الحكم والفكر. في كتابه
التأملات ما يلي: " قل لنفسك حين تقوم في الصباح: اليوم سألقى من الناس من
هو متطفل، ومن هو جاحظ، ومن هو عات عنيف، وسأقابل الغادر والحسود ومن يؤثر نفسه
على الناس... أما أنا فقد بصرت بقرابتي لهؤلاء فلن يسوءني أي منهم، ولن يعديني
بإثمه"[14].
في هذه الكلمات تتجلى روح الفلسفة الرواقية، التي تعلم الإنسيان السعي إلى الأمور
التي يقدر على اكتسابها، وتجنب الشرور التي باستطاعته اجتنابها، لأن هناك أمور
يعجز المرء على امتلاكها والوصول لها وأيضا تجنبها؛ حيث هناك أشياء محتومة من
الصعب ردها.
" يري الرواقيون، إذن، أن فعل التفلسف هو
أن تمارس فن العيش، وأن تعرف كيف تعيش، عن وعي وحرية: وعي نتجاوز به حدود فرديتنا
ونعي أنفسنا كجزء من كون مفعم بالعقل, وحرية بمعنى أن نقلع عن أن نرغب فيما لا
يعتمد علينا وما يخرج عن سيطرتنا، وأن نُعنى فحسب بما يعتمد علينا"[15].
فهي تدعو إلى التمييز بين الأمور التي تقع ضمن سيطرتنا، وتلك الخارجة عنها.
تعد أفكار الفلسفة
الرواقية من أعمق الأفكار العلاجية التي عرفها التاريخ الإنساني، إذ تدرب
الإنسان على ضبط مشاعره وألا يكبتها في نفس الوقت، وتدعوه إلى تقبل الواقع بدون
استسلام، وتحث على البحث عن المعنى من خلال الفضيلة لا المتع المؤقتة، وأن السعادة
الحقيقية تنبع من العيش المتناغم مع الطبيعة والعقل. وعلى مقربة من هذه الفكرة،
نجد الفيلسوف اليوناني أبيقور، الذي اعتبر معاناة الناس وتعاستهم
نابعة من الخوف، سواء الخوف من الموت حيث قال: " الموت لا يعنينا،
فطالما نحن موجودون، فالموت ليس موجودا، وعندما يأتي الموت، نكون قد غيبنا"،
" يقول طاغور في قصيدته ’ عندما يحين الموت‘: وهكذا، عندما يحين الموت، يبدو
لي المجهول كما لو كنت أعرفه منذ زمن بعيد. ولأني أحب هذه الحياة، أعرف أنني سأحب
الموت أيضا. يبكي الطفل عندما تسلبه الأم ثديها الأيمن، ويرضى بعد لحظات بثديها
الآخر"[16].
بهذا الطرح يحرر أبيقور الإنسان من الهلع الوجودي، ويجعله يتصالح مع
النهاية كجزء من الحياة نفسها.
لقد دعا أبيقور إلى تحرير الإنسان من الخوف، خاصة ذاك المرتبط بالموت، مؤكدا أن السعادة الحقيقية هي تجنب الإسراف في اللذات، ودعا إلى العيش وفق الطبيعة والعقل. بالنسبة إليه، اللذة العقلانية هي الخير الأسمى، حث أبيقور على تجاهل كل الأمور المؤلمة، والتركيز على كل ما هو سار وباعث على الطمأنينة. حيث ينبغي بناء علاقة إيجابية مع الذات، عوض أن يكون الإنسان في صراع مع عقله وأن يكون عدوه، يمكن أن يصبح صديقه. من هذا المنظور تصبح الحياة مساحة للتصالح لا للتوتر، للتأمل لا للتناحر.
كذلك لا بد من النظر إلى الأشياء من
منظورها الكوني، لتحقيق السلام الداخلي، ورؤية الأشياء بحجمها
الحقيقي لا تضخيم المصاعب وتهويلها. كثيرة هي التجارب والمعاني العميقة في الحياة
نفوتها بسبب الانشغال بالتفاهات " كم من خبرات غالية في الحياة تفوتها علينا
همومنا التافهة وانشغالها بما لا نملك وخوفنا على وضعنا وهيبتنا"[17].
على المرء سرقة لحظات الفرح وصناعتها، للآسف الإنسان يخاف حتى من لحظات البهجة
والضحك بل هو على يقين تام أن لحظات قليلة وتنقلب الأمور رأسا على عقب، ففي الثقافة
المغربية، هناك حذر وقلق، كثيراً ما نسمع في تلك اللحظات عبارة:’ الله يخرج هاذ
الضحك على خير!‘
لذلك على الإنسان أن
يستغل ويقتنص اللحظة، ويترك أوجاع الماضي ويصفح عنها، ويُنقذ نفسه منها، وأن لا
يثقل كاهله بحمولة الغد الذي لم يأتِ بعد. يعيش حاضره بل دراما وهموم المستقبل، فالحياة
الحقيقية هي الآن، في الحاضر؛ يقول بيير أدو:" بوسعك أن تكون
سعيداً الآن وإلا فلن تكون سعيداً أبداً" ويذكرنا أبيقور
بتحذير صادق من عادة التأجيل المدمرة: " نحن نولد مرة واحدة، وبرغم ذلك فما تزال أنت، يا من لا حكم لك
على الغد، تُسوّف بهجتك؟ غير أن الحياة تهدر سُدىً في هذه التسويفات، ويموت الواحد
منا ولم يعرف قط طعم السلام". إذن التأجيل للفرح
بحجة انتظار الظروف المثالية ليس سوى وهم، فالحياة لا تنتظر أحدا، ومن يفوت لحظته
يضيع عمره في الانتظار.
بيير آدو، الفلسفة طريقة حياة، التدريبات
الروحية من سقراط إلى فوكو، ترجمة: عادل مصطفى، هنداوي، 2017، ص 13.[1]
[5] فكتور فرانكل،
الإنسان يبحث عن المعنى، مقدمة في العلاج بالمعنى والتسامي بالنفس, ترجمة: الدكتور
طلعت منصور، مراجعة وتقديم: الأستاذ الدكتور: عبد العزيز القوصي، دار القلم،
الطبعة الأولى، الكويت، 1982، ص 108.