أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

الحداثة والعقل التواصلي عند هابرماس

الحداثة والعقل التواصلي عند  هابرماس

يُعتبر الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس (1929)، من أبرز رواد مدرسة فرانكفورت النقدية، تطرق في مؤلفاته لمواضيع متعددة سواء في الفلسفة السياسية أو العلوم الاجتماعية. لقد انفتح على كل الاتجاهات الفكرية والفلسفية، مما أسهم في إنتاج نصوص بالغة الأهمية، مما خول له أن يفرض نفسه على المستوى العالمي.

 يُعد هابرماس اليوم من أبرز الممثلين المعاصرين للنظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت، فهو يُصنف ضمن الجيل الثاني من المفكرين الذين يمثلون هذه المدرسة. ومع ذلك، انقسمت الآراء حول مدى اندماج هابرماس وارتباطه الكامل بهذه المدرسة، حيث يرى البعض بأن له مفاهيمه ومناهجه الخاصة في معالجة مختلف القضايا.

اهتم الفلاسفة بشكل كبير بمفهوم الحداثة، حيث عاش كل واحد منهم في فترات زمنية شهدت محاولات التحديث، مما دفعهم إلى صياغة أسئلة فلسفية حول هذا الموضوع والبحث عن إجابات لها. وقد قام يورغن هابرماس بدراسة وتحليل النصوص التي تطرقت لمسألة الحداثة، لأن الفكر الغربي جعل من الحداثة موضوعا فلسفيا وجزءًا أساسيا من الفكر الغربي.  

لقد تناول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس موضوع الحداثة بشكل عميق، حيث قام بتطوير نظريته حول الفعل التواصلي التي تهدف إلى تجاوز العقلانية الأداتية. من خلال نقده لهذه العقلانية، ومن أجل بناء مشروع حداثي يسعى هابرماس إلى تحسين التواصل البشري وتعزيز الفهم المتبادل بين أفراد المجتمع. " إن معايشة هابرماس لمجهودات التحديث في ألمانيا ولإعادة بناء مجال عمومي يسترشد بالعقلانية، دفعته إلى صياغة ’نظرية في الحداثة‘ لما سماه ب ’العقل التواصلي‘"[1].

لقد تأسست الحداثة على أسس فلسفية وأخرى سياسية راسخة خلال القرن السابع عشر والثامن عشر، والتي يمكن أن نختزلها في بروز الفكر الفرداني، والعقلاني مع أب الفلسفة الحديثة رونيه ديكارت ومع فلاسفة عصر التنوير، إلى جانب ترسيخ مبدأ العلمانية.

في هذا السياق، يرى هابرماس أنه لا تزال الحداثة مشروعًا لم يكتمل بعد، وهو ما أكده في محاضرته الشهيرة عام 1980، بعنوان " الحداثة: مشروع لم يكتمل بعد"، وكانت مناسبة المحاضرة التي ألقاها حصوله على جائزة أدورنو. كما أنها المقولة التي افتتح بها كتابه " القول الفلسفي للحداثة"، الغرض من هذه القولة هو الدفاع عن الحداثة ونقده لتيار ما بعد الحداثة، حيث اعتبر العقل الأوروبي ما زال في مرحلة الحداثة ولا يمكنه الانتقال إلى مرحلة أخرى ويقف في وجه دعاة القطيعة مع الحداثة.

كما أن الأزمات التي واجهتها الحداثة لا تعني أنها مشروع فاشل، كما أنها حسب هابرماس ليست حقبة تاريخية معينة، وإنما هي مشروع قائم ومستمر ينبغي مواصلة تطويره والبناء على مكاسبه. لذلك يرى أنه ينبغي الاحتفاظ بالمكاسب التي جادت بها الحداثة لأنها أحدثت تغيرات وتحولات جذرية، إذ أعلت من شأن التفكير النقدي وعزّزت البحث العلمي، مما أدى إلى تطور مجالات عدة، مثل الفيزياء والطب والتكنولوجيا، ساهم ذلك في فهم الإنسان للطبيعة ومكنته من السيطرة عليها.

أيضا من أعظم إنجازات الحداثة تأكيدها على الحرية الفردية، وترسيخ قيمة الفرد وحقوقه الأساسية. كذلك في ظل الحداثة تم تطوير عدة مفاهيم جوهرية كالديمقراطية والمساواة... وشهدت ظهور عدة حركات اجتماعية مؤثرة، مثل الحركة النسوية. ولا ننسى أيضا بفضل الحداثة تم الاعتراف بحقوق الأقليات، إلى جانب إرساء مبدأ  فصل الدين عن الدولة، من خلال تفكيك هيمنة المؤسسات الدينية على القرارات السياسية والعلمية، ما أدى إلى توطيد أسس الدولة الحديثة القائمة على العقلانية والتعددية.

كل ذلك ساهم في قيام دولة حديثة، تعطي أهمية كبرى للقوانين الوضعية، مما مكن الأفراد من ممارسة قناعاتهم ومعتقداتهم بحرية، بعيداً عن أي إكراه أو وصايا من جهات معينة. من بين مكاسب الحداثة أيضا التقدم التكنولوجي، حيث شكلت الثورة الصناعية إحدى ثمارها الكبرى، مما أدى إلى تحسين جودة الحياة البشرية، وتذليل الصعاب من خلال تطور مجال الرعاية الصحية، ووسائل النقل، والتواصل.  كما أن الأفكار الحداثية ساعدت في عملية تعزيز العدالة الاجتماعية، من خلال بروز حركات تدافع بقوة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتسعى إلى تقليص التفاوت الطبقي الصارخ، وتحسين ظروف العمل. لهذا، يرفض هابرماس التخلي عن هذه المكاسب التي جلبتها الحداثة، رغم الانتقادات والهجمات التي تعرضت لها.

سعى هابرماس في مشروعه الفلسفي إلى إعادة الاعتبار والثقة للعقل الغربي، مؤكدًا أن الحداثة لم تفشل، بل إنها مشروع لم يكتمل بعد، ولا تزال قابلة للتطوير، رغم الأزمات التي شهدها الإنسان الغربي على وجه الخصوص ( لأن الحداثة غربية) فهذا لا يعني أنه تحطم بشكل كلي وتم القضاء عليه.

اعتبر هابرماس أن للعقل الغربي قدرة فائقة على التطور والتجديد، وهذا ما جعله يعارض مواقف فلاسفة ما بعد الحداثة لأنهم رفضوا الحداثة رفضا مطلقا وجذري، على عكسهم، قدم هابرماس رؤية مختلفة، مغايرة لأصحاب تيار ما بعد الحداثة، حيث أقر بأن الحداثة تواجه أزمات، ولكنها تستطيع تجاوزها.

لقد رأت الحداثة النور في بدايتها ووصلت إلى درجة عالية من النضج، يرى هابرماس أن لكل مرحلة حداثية أدواتها الخاصة، كما أن العلاقة التي تجمع الحداثة بالماضي هي سيئة، لأن الحداثة تعانق المستقبل " وليس بإمكان الحداثة استعارة المعايير التي تسترشد بها من عصر آخر، إنها ملزمة باستخراج معياريتها من ذاتها"[2]. " الحداثة بالمعنى القوي، لم تعد تستمد قوتها من نفوذ حقبة ماضية، بل من أصالة راهنية ماضية فحسب"[3].

 رغم دفاعه عن الحداثة، لم يتردد هابرماس في انتقاد الحضارة الحديثة، لأنها ركزت بشكل مفرط على التكنولوجيا، وأهملت التأمل والتواصل بين الناس. حيث أضحت التقنية أداة للتحكم، كما أدى التعويل الأعمى على العقل الأداتي إلى عدة خيبات متكررة، عاشها الإنسان المعاصر.

في زمن الحداثة تم القضاء على القيم والاحتفاء بما هو مادي، وتغييب الجانب الروحي وتهميشه لصالح النزعة المادية، لأن العقل الأداتي جعل الإنسان مغتربًا في مجتمعات رأسمالية صناعية. ونتيجة لذلك، تحول الإنسان إلى كائن مشيأ، مقيدًا ضمن نظام  يفقده حريته وفاعليته داخل المجتمع. "ويظهر أن الحداثة التقنية لم تكتف بانتزاع المقومات الوجودية للفرد سواء تعلق الأمر بعقله وحريته أو برغبته وبميولات جسده، بل إنها توظف تعبيرات هذه العناصر لكي ينسلخ أكثر عن ذاته ويرتمي كلية في الاقتصاد الثقافي ذي الامتداد الجماهيري"[4]

غالبا ما يتم النظر إلى الحداثة على أنها تلك الثورة التقنية والعلمية إلا أن الحداثة ليست كذلك. إن عالم التقنية حسب هابرماس قضى على الفعل التواصلي المبني على الحوار والنقاش والتعددية، حيث أصبح لدينا تواصل تقني جاف، لا يهتم بإنسانية الإنسان، كما اتسعت الفوارق بين أفراد المجتمع وتجمدت العلاقات الإنسانية السليمة.

إن هيمنة العقل الأداتي أفرزت لنا إنساناً استهلاكيا بلا حدود، مما أدى إلى انحسار القيم الإنسانية وصعود ثقافة الاستهلاك بشكل مفرط. في مقابل هذا التوجه، يدعو هابرماس إلى بناء عقل تواصلي. اعتبر نقد ما بعد الحداثة يفتقر إلى العقلانية، بل ورأى أن هؤلاء الفلاسفة يتبنون موقفا فوضويا لأنهم رفضوا الحداثة. وعلى عكسهم، لم يكتف هابرماس بالنقد، بل انتقل إلى البناء، وبالتالي دافع بقوة عن استمرارية مشروع الحداثة.

يعتبر هابرماس أن التحديات الحقيقية التي واجهت الحداثة لم تكن نابعة منها ذاتها، فبالنسبة له كانت إرادة الهيمنة والسيطرة والتسلط عراقيل أمام مشروع الحداثة في تحقيق أهدافها الإنسانية، نشير هنا إلى الأنظمة التوتاليتارية الاستبدادية،  التي ارتكب فظاعات مهولة " ومهما يكن من أمر ، فإن الحديث عن مظاهر الحداثة كما أنتجتها الحضارة الغربية لا يمكن أن يقتصر على إطار جغرافي بعينه، لأن الحداثة، منذ بداياتها الأولى، برزت في شكل إرادات للقوة تسعى إلى الهيمنة والتوسع والانتشار"[5]

إن الهدف من فلسفة هابرماس هو الاعتراف بالآخر، رغم الاختلاف، وتعزيز التواصل الفعال كل ذلك يمر في فضاء عمومي تُحترم وتُناقش فيه الآراء، بهذا، يميز هابرماس نفسه عن الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت، مما يعني أن هابرماس لم يقطع مع مشروع الحداثة، وظلت ثقته في العقل التنويري مستمرة في الوقت الذي تعالت فيه أصوات مطالبة بترك المشروع التنويري الحداثي.

رأى هابرماس أن هناك مبالغة في نقد الحداثة الغربية، رغم أن له أسبابه (النقد) الموضوعية، كانت هناك رغبة ملحة في التخلص من أشكال الظلم والعنف التي عانى منها الإنسان عبر التاريخ، سواء بسبب تسلط المؤسسات الدينية أو القمع السياسي. لذلك، رأى بعض الفلاسفة أن المشروع التنويري، الذي حمله كل من ديكارت ولوك وكانط ومونتسكيو وغيرهم، لم يعد قادرًا على تحرير الإنسان من هيمنة الأنظمة التوتاليتارية.

شكلت الأزمات الكبرى التي عرفها العالم الحديث والمعاصر مثل الهولوكوست التي كانت بمثابة المؤشر الدال على فشل مشروع الحداثة، وأن السلام العالمي والسعادة، والعدالة، ما هي إلا ضرب من الخيال ووعود كاذبة وأوهام زائفة. في ظل الأنظمة الشمولية، لم يعد الفرد يحلم بغدٍ أفضل، مما عزز موقف من يرون أن مشروع التنوير لم يحقق تحرره المنشود، بل ساهم في تكريس أشكال جديدة من القمع والاستلاب. الحداثة التي قدمها التنوير حسب هابرماس ركزت على العقل من أجل السيطرة على الطبيعة والمجتمع، وهذا أدى إلى هيمنة التقنية والبيروقراطية، مما ساهم في تآكل الفضاء العمومي، وأصبحت طرق الحوار والتواصل غير ممكنة.

 يؤكد يورغن هابرماس على العقلانية التواصلية كمقترح بديل عن العقل الأداتي "إن هابرماس، في كل كتاباته، يؤكد على أنه بالرغم مما يمكن توجيهه من نقد للحداثة وللعقلانية، وبالرغم من بعض النتائج التراجيدية التي ولدتها العقلانية التقنية، فإنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، التخلي عن العقل أو الدعوة إلى التخلص منه"[6].

في رأي هابرماس النقاش العقلاني الحر داخل الفضاء العمومي يمكّن الأفراد من مناقشة قضاياهم بكل حرية، دون تدخل السلطة والمال، مما يساهم في الوصول إلى توافقات ديمقراطية عادلة. فهو يؤمن بأن الحداثة لا تحتاج إلى تجاوز أو رفض، بل إلى إصلاح يركز على تعزيز قيم التواصل الحر والتفاعل الاجتماعي، مما يسمح بتجاوز الأزمات التي واجهتها وتواجهها الحداثة عبر تاريخها.

فالحداثة في السابق ركزت على تطوير العلم والتقنية والبيروقراطية من أجل تنظيم المجتمع، إلا أنها أهملت الجانب الإنساني والتواصلي، مما جعل الأفراد مجرد أدوات داخل منظومة اجتماعية تفتقر إلى البعد الإنساني. ومن هذا المنطلق، يؤكد هابرماس على ضرورة أن تخضع  القرارات السياسية لحوار عقلاني شامل، دون أن تكون رهينة النفوذ الاقتصادي أو السلطوي، بحيث تُبنى السياسية على التفاعل الديمقراطي بدلا من فرضها بوسائل القوة والتأثير غير العادل.

إذا كان نتشه وفوكو وليوتار، اعتبروا بأن الحداثة هي قطيعة مع الماضي، فإن هابرماس خالفهم، واعتبر بأن الحداثة هي بحاجة إلى أن يكون لها جذور في الماضي، ولكن هذا لا يعني إعادة إنتاج التقليد، بل عبر تطويره استنادًا إلى النقد والتواصل العقلاني. هي نعم تستلهم من التنوير، لكنها ليست غاية نهائية، بل مسار يجب تصحيحه وإعادة توجيهه بما يحقق مزيدًا من الحرية والتقدم.

ويؤكد هابرماس أن الحداثة ليست مرحلة مكتملة أو حالة ثابتة، بل هي مشروع مستقبلي مفتوح على التحولات، يتطلب الاستمرار في مراجعة نفسه وتطوير أدواته بما يضمن تحقيق توازن بين التقدم العلمي والتقني من جهة، والاعتبارات الإنسانية والتواصلية من جهة أخرى.   

المصادر والمراجع المعتمدة:

 محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، افريقيا الشرق، ط2،ص 10.[1]

 يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة: د. فاطمة الجيوشي، دمشق، وزارة الثقافة، 1995، ص 16.[2]

 يورغن هابرماس، الحداثة مشروع لم يكتمل، ترجمة: فتحي المسكيني، ص 2.[3]

 محمد نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، نموذج هابرماس، افريقيا الشرق، ط2،ص41.[4]

المرجع السابق، ص 119. [5]

 المرجع السابق، ص 135. [6]

سعيدة مهير
سعيدة مهير