أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

الموت عند الصوفية: لماذا يُسمّى عُرس الروح؟

الموت عند الصوفية: لماذا يُسمّى عُرس الروح؟

رحلتنا اليوم ليست كأي رحلة، إنّها سفر في عالم غامض يخافه البشر ويهربون منه. ولكن الصوفية نظروا إليه بعين أخرى: إنّه الموت. عند الكثيرين هو فناء وخسران، وعند أهل العشق الإلهي ليس إلا لقاء مع الحبيب. يرى أكثر الناس الموت نهاية وانقطاعًا وفراقًا للأهل والمال والدنيا، لذلك يخافونه ويحاولون دفعه بكل وسيلة. ولكن الحقيقة التي أكّدتها الأديان كافة أنّ الموت ليس فناءً مطلقًا، بل عبور إلى عالم آخر.

أمّا عند الصوفية، فالموت هو الجسر الذي يعيدهم إلى من يحبون، هو الباب الذي يفتحه الله لقلوبهم ليروا ما كانوا يشتاقون إليه. لذلك تجدهم يستقبلون الموت بالطمأنينة والرضا، بل وبالفرح. وقد كتب بعض الصوفية في أشعارهم: إذا جاء الموت كان الحبيب يطرق الباب، فأفتح له بفرح لا بحزن.

قالت رابعة العدوية رحمها الله: "يا موت مرحبًا، حبي وشوقي إلى الله طال، واللقاء به قد حان". كانت ترى الموت عرسًا وليس نهاية. ومن القصص الشهيرة عنها أنّها حين مرضت مرضًا شديدًا قالت لمن حولها: "لا تبكوا عليّ، فإنّ قلبي يُحلّق الآن إلى محبوبه".

شاهد الفيديو

وأمّا الحلاج، شهيد العشق الإلهي، فلقد كان يرى في قتله وصولًا، فقد قال: "اقتلوني يا ثقاتي، إنّ في قتلي حياتي". كان يعلم أنّ الموت في سبيل محبة الله هو الحياة الحقيقية. وحتى أثناء صلبه كان قلبه معلّقًا بالله، ولم تُخِفه أدوات العذاب.

وفي كلمات محيي الدين ابن عربي نجد معنى عظيمًا: الموت ليس فناءً، بل انتقال من دار إلى دار، ومن منظر إلى منظر. ويضيف: المؤمن يفرح بالموت، لأنّه يعلم أنّه سيرى من يحب. ومن حكمه المعروفة: "من أحب الله في الدنيا، فرح باللقاء به في الآخرة".

أما الرومي، شاعر الحب والوجد، فقد سمّى يوم موته "ليلة العرس"، لأنّه فيها يرتحل إلى الله وفيها يجد كمال الوصل. قال: "لا تبكوا يوم موتي، فإنّه يوم لقائي بحبيبي". ومن القصص عنه أنّه أثناء مرضه الأخير كان يبتسم ويردّد أشعارًا عن الفرح باللقاء الإلهي، حتى شعر من حوله بالسكينة.

الصوفية يرون أن الموت ليس فناءً ولا ضيقًا، بل بداية لرؤية الجمال المطلق. الموت هو عودة الروح إلى البيت الذي تنتمي إليه. ويضيفون أن كل لحظة نعيشها يجب أن تكون استعدادًا لهذا اللقاء، بالحب والطاعة والصدق.

يروي بعض الصوفية أن أحد الأولياء كان يقول للمقرّبين منه: "عندما تأتي ساعة موتي، أريد أن تروني مبتسمًا، لأنّ قلبي سيحلّق إلى محبوبه". وفي قصة أخرى رُوي أنّ شيخًا صوفيًا كان يستقبل الموت قائلاً: "الموت لا يأخذ مني شيئًا، بل يعيد إليّ نفسي التي فقدتها في الدنيا".

إذن، الموت عند الصوفية ليس فناءً ولا ظلامًا، بل نور ووصل. هو الرحلة الأخيرة التي يغادر فيها العاشق دار الغربة ليدخل دار القرب. فإذا كان الموت يخيف العالم كله، فإنّه عند المحبين أعذب بشرى.

لا يحلو الحديث عن الموت إلا عند الصوفية، أولئك العاشقين الذين نظروا إليه بعين الشوق والحنين، فكان بالنسبة لهم لحظة لقاء لا فراق، ونعمة تتلألأ في أعماق الروح. فترقّبوا هذه الرحلة فرحين، وقد يختلط فيهم شعور الفرح والوجل، كما يختلط ضوء الفجر بخفّة النسيم، فتختلط الأحاسيس لتصبح حالة من الصفاء الروحي العميق.

الموت عندهم ليس قيودًا للجسد، ولا انصهارًا في الأكوان، ولا مجرد اندراج في المطلق أو في رحمة الرحمن، بل هو تتويج لطريق طويل من المحبة والتقرّب إلى الحق. رحلة روحية تبدأ بخطوة الحنين إلى الله وتنتهي بلقاء المحبوب الأعظم.

كم هي مؤثرة تلك البساطة أمام الموت! وكم هو هزيل كل شعور بالخوف أمام حقيقة أنّ الروح، هذه النفس الطاهرة، ما هي إلا انفصال عذب عن الجسد. خروجها من الرئتين ليس نهاية، بل بداية فصل جديد من الحياة الأبدية، حيث تتنقّى وتجول في رحاب المحبة الإلهية، بعيدًا عن كل ما كان يُثقل كاهلها في هذا العالم.

الموت هنا ليس شيئًا مظلمًا، بل هو سفر نحو النور، ودعوة للقاء الذي طالما اشتاقت إليه القلوب الصافية. فترتقب الروح ذلك الفاصل بين الدنيا والآخرة بفرح واشتياق، وكأنّها تستجيب لنداء المحبوب.

سعيدة مهير
سعيدة مهير