أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

الخلوة عند الأنبياء والصوفية: سرّ النور الإلهي وأجمل المقولات الصوفية

الخلوة عند الأنبياء والصوفية: سرّ النور الإلهي وأجمل المقولات الصوفية

في زحام هذا العالم، حيث تتكاثر الأصوات، وتتشابك الطرق، ويضيع القلب بين شهوة وقلق، كان للصالحين طريق آخر: طريق الخلوة، مكان لا يشترط أن يكون كهفًا ولا صومعة، بل يكفي أن يغلق العبد بابه في الخلوة. لا صوت يعلو على الذكر، ولا نور يشرق إلا من الداخل، ولا أنيس سوى المحبوب.

قال أحد العارفين: "في الخلوة يعرف الصادق من المدعي، ويكشف الحجاب عن عين القلب." فما سر الخلوة، وما الذي يجده العارفون في هذا الصمت العميق؟ وهل يمكن لإنسان اليوم أن يذوق منها شيئًا؟

 نغوص سويًا في أسرار الخلوة عند المتصوفة. الخلوة في التصوف ليست مجرد عزل عن الناس، ولا هي سكون جسدي فقط، بل هي رحلة داخلية نحو الله. إنها لحظة يتوقف فيها القلب عن صخب الدنيا، ويستمع إلى همس الروح.

شاهد الفيديو

في الخلوة، يتلاقى العبد مع نفسه، يراقبها، يطهرها، ويجاهدها، ويقترب أكثر فأكثر من الحقيقة الإلهية. الخلوة في التصوف ليست مجرد عزلة مكانية، ولا مجرد انقطاع عن ضجيج الناس، بل هي تحول عميق في الداخل. إنها لحظة يقف فيها السالك وجهًا لوجه أمام نفسه، فيتجرد من زخرف الحياة، ويعود إلى أصله الأول: قلب صافٍ بين يدي الله.

يقول الصوفية: "الخلوة هي سفر إلى الداخل." فكما يسافر الإنسان في الأرض ليكتشف الجبال والبحار والآفاق، كذلك يسافر العارف في قلبه ليكتشف أسرار الروح وأنوارها. هي ليست هروبًا من العالم، بل عودة إلى منبع القوة الذي به يواجه العالم.

الخلوة عندهم تقوم على ركنين: الانقطاع عن الخلق، والاتصال بالحق. فالعبد يبتعد عن أعين الناس، ولكنه يقترب أكثر فأكثر من الله. ولهذا قال أحد العارفين: "من خلوت عن الخلق، لم تخلو عن الحق."

لقد اتخذ الأنبياء والأولياء الخلوة سبيلًا لتلقي الوحي أو الإلهام. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في غار حراء، يغرق في التأمل والذكر حتى جاءه النور الأول. ومن بعده سلك الأولياء والخاشعون هذا الدرب، فجعلوا من الخلوة مدرسة لتزكية النفس، وتطهير القلب، وفتح أبواب المعرفة الإلهية.

وليست الخلوة مفهومًا نظريًا فقط، بل هي طريق سلكه أعلام الصوفية عبر التاريخ. فهذا الإمام الغزالي، لما ضاق صدره بجدل العلماء وصخب المناصب، ترك بغداد وانقطع إلى خلوته، يطلب نورًا يتجاوز به علم الكتاب والقلم إلى علم يكشف أسرار القلوب.

وهذا الشيخ عبد القادر الجيلاني قد أوى إلى الكهوف سنين طويلة، يجاهد نفسه بذكر وصبر ودموع، حتى صار قدوة في التربية والسلوك. وإذا ذكرنا جلال الدين الرومي، ذكرنا خلوته مع شمس التبريزي، تلك الخلوة التي لم تكن جدرانًا وأبوابًا، بل كانت وجودًا يذوب في محبة الله.

وهذا ابن عربي، الذي رأى في الخلوة سفرًا في أعماق النفس، حتى صاغ مفهوم الإنسان الكامل، يكون مرآة لأسماء الله وصفاته. ولم يكن الغزالي والجيلاني والرومي وابن عربي وحدهم على درب الخلوة، بل إن تاريخ التصوف مليء برجال ونساء جعلوا من الخلوة سلمًا للترقي الروحي.

فهذا الجنيد البغدادي كان يرى أن الخلوة مدرسة لتصفية القلب، حتى قال: "الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم." وكان يرى أن العزلة سبيل إلى صفاء الباطن ودوام الحضور مع الله.

أما رابعه العدوية، فقد جعلت خلواتها ميدانًا للعشق الإلهي؛ فكان ليلها دعاءً وبكاءً، ونهارها صيامًا وذكرًا، حتى تحولت كلماتها إلى أنشودة للحب الإلهي الذي لا تشوبه رغبة في جنة، ولا خوف من نار.

وفي البصرة، عاش الحارث المحاسبي، الذي حمل هم مراقبة النفس، فكانت خلوته مرآة يواجه بها قلبه، يفتش عن نواياه، ويحاسبها على كل خاطر يمر بها، حتى لقب بالمحاسب. هؤلاء جميعًا، رجالًا ونساءً، من المشرق إلى المغرب، أثبتوا أن الخلوة ليست انقطاعًا عن الدنيا، بقدر ما هي لقاء مع الحقيقة الكبرى، حيث يتحول الصمت إلى كلام، والوحدة إلى أنس، والعزلة إلى قرب.

يا الله، يا أنيس المستوحشين في الخلوات، يا من لا يغيب عن قلوب العارفين طرفة عين، اجعل لنا في خلواتنا نورًا، وفي سرائرنا صفاءً، وفي قلوبنا أنثى بك لا يزول. اللهم، اللهم، نحن نلجأ إليك في وحدتنا كما لجأ أنبياؤك وأولياؤك، فنجدك أقرب إلينا من حبل الوريد، ونستشعر أن كل سكون في الكون إنما هو نداء إليك.

واجعل سرائرنا عامرة بأنوار محبتك، يا أرحم الراحمين. قال أبو مدين الغوث: "الخلوة باب من أبواب الحق، لا يفتح إلا لمن أخلص في طلبه به." أما الجنيد، فكان يقول: "الخلوة نور، ومن ذاق عرفه في الخلوة لا يبقى معك إلا الله." فتكتشف أن هذه الكفاية وحدها شفاء؛ فيها ينهار التكلف، ويظهر صدق العبد، وتبدأ الرحلة من ظاهر الإنسان إلى باطنه، ومن باطنه إلى ربه.

اللهم اجعل لنا في خلواتنا أنثى بك، وفي ذكرنا لك سكونًا، وفي صمتنا نورًا، وفي وحدتنا وصالًا، وفي كل لحظة صفاءً قربًا منك، لا يحجب. اللهم طهر قلوبنا من كل ما سوى وجهك، واملأ أرواحنا بحبك. فالخلوة ليست فرارًا من الحياة، بل رجوعًا إلى حقيقتها، حيث لا يبقى شيء إلا وجه الله، ولا يسمع القلب إلا النداء الأزلي.

ففرّوا إلى الله، إن وجدتم في هذه الكلمات نفسًا يقربكم إلى الله. فلا تنسوا أن تشركونا في الدعاء.

 

سعيدة مهير
سعيدة مهير