أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

سهروردي المقتول: شيخ الإشراق الذي أراد أن يضيء العالم فأطفأوه

سهروردي المقتول: شيخ الإشراق الذي أراد أن يضيء العالم فأطفأوه

ا ليوم نفتح صفحة من صفحات التصوف والفلسفة المشرقة، صفحة كتبت بالنور، وانتهت بالدم. إنه شهاب الدين السهروردي، الفيلسوف الصوفي الذي عرف بشيخ الإشراق، والذي سماه الناس بعد موته السهروردي المقتول.

ولد شهاب الدين في مدينة سهرورد شمال إيران، ومنذ صغره كان مختلفًا، يحمل شغفًا بالفكر والبحث عن الأسرار. لا يرضى أن يقف عند ظاهر النصوص، بل يسعى دائمًا إلى ما وراءها. درس الفقه والشريعة، ثم الفلسفة والمنطق، ولم يكتفِ بما يتلقاه في بلده، بل بدأ رحلة طويلة من الأسفار بين مدن المشرق الإسلامي.

وفي أسفاره التقى بالفقهاء والمتصوفة والحكماء، حتى كون لنفسه رؤية خاصة سماها حكمة الإشراق. وحكمة الإشراق عند السهروردي قائمة على النور؛ فهو يرى أن أصل الوجود كله إشراق إلهي، وأن الله هو النور الأول الذي تتجلى منه جميع الكائنات. من أحب هذا النور، فقد أحب الله، ومن جاهد ليصفي قلبه صار قادرًا على شهود إشراقاته. وكان السهروردي يقول: "أول طريق الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا، ووسط الطريق هو مشاهدة الأنوار الإلهية، أما آخر الطريق فلا نهاية له."

ولكن مثل هذه الأفكار، التي تجمع بين الفلسفة والتصوف، لم تكن سهلة الهضم على فقهاء عصره. عدة فقهاء، خصمًا عنيدًا في المناظرات، يغلبهم كثيرًا بالحجة والبرهان، فتزايد حقدهم عليه، وأطلقوا الفتاوى بتكفيره وزندقته. استقر السهروردي أخيرًا في مدينة حلب، في زمن الملك الظاهر ابن صلاح الدين الأيوبي. وقد أعجب الملك الظاهر به إعجابًا شديدًا، وكان يقربه منه، ويجعل بينه وبين الفقهاء مجالس مناظرة. وفي كل مرة، كان السهروردي يخرج غالبًا، وهذا ما زاد من ضيق صدور الفقهاء به، حتى سعوا إلى الوشاية به عند صلاح الدين نفسه.

شاهد الفيديو

ويروي المؤرخون أن الفقهاء احتالوا عليه بسؤال ماكر: قالوا له: "أليس الله قادرًا على كل شيء؟" قال: "بلى." قالوا: "فهل يقدر على أن يبعث نبيًا بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟" ولو أجاب بنعم، لكفر، ولو أجاب بلا، لقيل إنه حدّ من قدرة الله. ولكن السهروردي أجاب بحكمة: "إن قدرة الله لا يحدها حد." ومع ذلك، عدت هذه الإجابة مدخلًا لتكفيره.

رفع الفقهاء الأمر إلى صلاح الدين، فأمر بقتله، وأرسل إلى ابنه الملك الظاهر بذلك. ولكن الظاهر كان مترددًا لأنه يحبه ويجله، فلما شدد صلاح الدين الأمر، خشي الظاهر العزل، فأمر بإنهاء حياة السهروردي.

إلا أن السهروردي في آخر لحظة أبى أن يتحمل أحدًا وزر دمه، فطلب أن يُترك في محبسه بلا طعام ولا شراب حتى يموت. وهكذا كانت نهايته في قلعة حلب، وهو لم يتجاوز السادسة من عمره.

ترك السهروردي مؤلفات عديدة، منها كتابه الأشهر "حكمة الإشراق"، وكتبًا أخرى في الفلسفة والرموز الصوفية. وفي أحد كتبه كتب بمرارة: "بلغت الثلاث من عمري، ولم أجد من يشاركوني أسرار هذه العلوم، ولا من يأنس إلى ذوقها." كلمات تكشف شعوره بالغربة الروحية في عصره.

لقد كان السهروردي كثير الإعجاب بالحلاج، شهيد العشق الإلهي، وكان يراه أخًا روحيًا، ويستشهد بكلماته. وربما كان يشعر أن مصيره سيكون قريبًا من مصيره؛ فكلاهما انتهى ضحية للحقد والاتهام بالزندقة.

ورغم موته المأساوي، بقي أثره خالدًا، فقد فتح بفلسفة الإشراق بابًا جديدًا في الفكر الإسلامي، جمع فيه بين نور القلب وحكمة العقل، وبين الفلسفة والروحانية. وما يزال الباحثون اليوم يرون فيه رمزًا للشهيد، الذي دفع حياته ثمناً لحرية الفكر وصفاء التجربة الصوفية.

رحل السهروردي المقتول، ولكن إشراقاته بقيت تنير العقول والقلوب، وتنادي كل من يطلب النور أن ينسلخ من حجب الدنيا، لترى أنوار الحق متجلية في كل شيء.

حقيقة المحبة أن تهب لمن أحببت كلّك، ولا يبقى لك منك شيء. كل حي في هواها ميت، إنما ميت هواها ذاك حي. هل للهوى دواء؟ هل لميت الغرام في الحب طب؟ القلب يأمل، والآمال كاذبة، والمغشى يلهو.

وفي الأيام معتبر، زود فؤادي نظره من حسن وجهك، فهو راحل. بشرت أنك قاتلي! يا حبذا إن كنت قاتلًا، سهري لغيرك ضائع، وتيمم بسواك باطل. نحن اللذان تعارفت أرواحنا من قبل خلق الله طينة آدم. اليوم أيقنت أن الحب متلفه، وأن صاحبه مني على خطر. بين الخوف والحذر يلوم عينيه أحيانًا بذنبهما، ويحمل الذنب أحيانًا على القدر.

أبدًا تحن إليكم الأرواح ووصالكم، ريحانها والراح، وقلوبكم تشتاق، وإلى لذيذ لقائكم ترتاح. تكلفوا ستر المحبة والهوى، فضاح بالسر إن باحوا، تباح دماؤهم، وكذا دماء العاشقين تباح كل يوم. يروعني منك عتب: أي ذنب جناه فيك المحب؟ ولولاكم ما عرفنا الهوى، ولولا الهوى ما عرفناكم. أقسمت بصفو حبكم في القدم، ما زال إلى غير هواكم قدمي. قد أمزجوا حبكم بلحمي ودمي قطعي صلتي، وفي وجودي عدمي.

 

سعيدة مهير
سعيدة مهير