أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

من أنا؟ من عرف نفسه عرف ربه | رحلة صوفية في سرّ الهوية

من أنا؟ من عرف نفسه عرف ربه | رحلة صوفية في سرّ الهوية

من أنا؟ سؤال يبدو بسيطًا، ولكنه في أعماق. التصوف هو مفتاح الوجود كله، اغمض عينيك قليلًا، ودع الأصوات من حولك تخال قلبك. هل أنا هذا الجسد الذي يذبل مع الزمن؟ هل أنا هذا الاسم الذي ورثته من أهلي؟ هل أنا المنصب أو المال أو المظاهر التي يتنافس نفس الناس حولها؟ أم أنا شيء أعمق وأبقى؟

هنا يتدخل التصوف ليهمس في أعماقنا: أنت لست جسدك، ولا اسمك، ولا ما تملك. أنت سر أودعه الله فيك، نفخة نور سكنت في الطين. المعرفة الحقيقية لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل. فالنفس ليست عدوك كما يظن البعض، بل هي الطريق إلى الله. اعرف نفسك، تعرف ربك. هي المرآة التي تعكس نوره، فإذا صفت تجلّى فيها الحق بوضوح.

تخيل أنك تحمل في صدرك مرآة، لكنها مغطاة بالغبار. كلما أزلت عنها غبار الغفلة، انكشفت لك صورتك الحقيقية، وكلما عرفّت نفسك أكثر، انفتح لك باب المعرفة بالله أكثر، في لحظة الصمت العميق، حين تغمض عينيك وتقول: "من أنا؟" يجيب قلبك: أنت الحنين الأبدي إلى الأصل، أنت الرحلة، وأنت الراحل، وأنت الراجع.

شاهد الفيديو

العارفون يقولون: إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يكون مرآة للوجود كله. فهو جامع بين الأرض والسماء، بين الجسد والروح. فإذا أدرك هذه الحقيقة، صار إنسانًا كاملاً. وهنا يظهر جمال التصوف، فهو لا يطلب منك أن تهرب من العالم، ولا أن تكره جسدك، ولا أن ترفض الحياة، بل يدعوك أن ترى الله في كل شيء: في نفسك، في الآخرين، في الجمال الذي يملا الكون. زهرة تتفتح في الربيع، كل موجة تضرب شاطئ البحر، كل ابتسامة طفل… كلها مرايا صغيرة تعكس المحبة الإلهية. فإذا فتحت قلبك للحب، ورأيت الجمال بعين روحك، ستدرك أن الوجود كله غزل إلهي، وأنك أنت أحد أبياته.

الطريق يبدأ بسؤال: من أنا؟ أول طريق السالك أن يلتفت إلى نفسه، فيجلس معها جلسة صدق، فيقرأ كتابها المخبوء ويغوص في بحرها العميق. فالنفس مرآة، فإذا سُقلت أشرقت، وهي مفتاح السير إلى الكمال والإنسانية الحقة. وقد جعل الله تعالى ماهية الإنسان خريطة للكون، وجمع في جوهره أسرار الوجود، كأنه كتاب صغير يختزن خروف العالم الكبير. ومن قرأ نفسه قراءة العارفين، صار قلبه عدسة تكشف المعاني، ومنظارًا يبصر به ما وراء الظواهر، ومجهّرًا يرى به دقائق الأسرار.

وهكذا، لا يكون الوصول إلى الحقائق العليا، ولا تذوق أنوارها، إلا باكتشاف الذات. فان عرفت نفسك، انفتح لك باب الوجود، وأشرقت فيك أنوار الحقيقة. فإذا نظرنا إلى الإنسان من زاوية جسده فقط، سنجد أمامنا نظامًا مذهلًا: كل عضو يعمل بتناغم وانسجام مع الآخر، وكان الجسد أوركسترا متكاملة، كل آلة فيها تؤدي دورها بدقة مذهلة. لكن هذا الانسجام لا يقتصر على أعضاء الجسد فقط، بل يمتد ليشمل علاقة الإنسان بالعالم من حوله. فالإنسان ليس كائنًا منفصلًا عن الكون، بل هو جزء في مجموعة كبرى متناغمة، تتجلى فيها التوازنات العجيبة بينه وبين كل ما في الوجود، حتى أبعد الأجسام في الفضاء الواسع.

وهذا التناسب المدهش بين الداخل والخارج، بين الجسد والكون، لا يمكن أن يكون صدفة، بل هو دليل على أن خالق هذا الإنسان هو نفسه من أبدع هذا الكون، إنه الله سبحانه وتعالى، وحده القادر على أن يضع هذا التوازن الدقيق ويجمع بين الإنسان والوجود في نغمة واحدة متناغمة.

إلى جانب جسد الإنسان المادي، هناك عوالم أعمق وأرقى تسكنه: القلب، والروح، والوجدان، والحس، والإرادة، والوعي. فإذا تعلم الإنسان كيف يقرأ نفسه قراءة صادقة من خلال هذه الجوانب، فإنه سيبدأ شيئًا فشيئًا في اكتشاف الحقائق الكبرى. عندها ينفتح بصره ليرى آثار الله في صفحات الكون، ثم يتأمل وراء هذه الآثار في أفعاله سبحانه، ومن الأفعال يصعد إلى الأسماء الحسنى، ومن الأسماء يترقى إلى الصفات العليا، حتى يجد نفسه في حالة من الدهشة والحيرة أمام جلال الحق تعالى.ومن هنا نفهم أن من يتغافل عن نفسه، ويتجاوز هذا العالم الداخلي العجيب، إنما يعرض في الحقيقة عن أعظم الحقائق السامية التي خلق لأجلها الإنسان

 

سعيدة مهير
سعيدة مهير