يؤكد الفيلسوف السويدي
نيك بوستروم Nick Bostrom في
كتابه ’الذكاء الخارق‘ على أن الذكاء الاصطناعي قد يصل إلى
مرحلة السيطرة على الإنسان، حيث يقوم بأدوار البشر ويتفوق فيها. هذا الاحتمال يثير
مخاوف عالمية بشأن مستقبل العلاقة بين التقنية والإنسانية، خاصة مع تنامي القلق من
تفوق الذكاء الاصطناعي، الذي من الممكن أن يشكل خطراً على الوجود الإنساني. من
الملاحظ في الآونة الأخيرة، أن الإنسان أصبح يعتمد بشكل متزايد على أنظمة الذكاء
الاصطناعي، مما دفع نيك بوستروم إلى التنبيه لضرورة ضبط وتحكم الإنسان في
التكنولوجيا وضمان ألا تكون خالية من القيم والأخلاق.
إنه لأمر مخيف أن يصبح العقل الرقمي أقوى وأكثر
تطور من العقل البشري، ولكن الذكاء الاصطناعي رغم قوته، يفتقر إلى العاطفة والمشاعر،
إلا أنه مع تسارع التطور التكنولوجي، يجد الإنسان نفسه في مواجهة تحدٍ حاسم بين
التقدم التقني والحفاظ على الاستقرار العالمي. حيث يقول نيك بوستروم في هذا
السياق: " إن القدرة العامة على تحقيق الاستقرار في عالم معرض للخطر تتطلب
قدرات متضخمة إلى حد كبير للشرطة الوقائية والحوكمة العالمية"[1].
هل يمكن أن تدمر التكنولوجيا صانعها؟
على مدار التاريخ، استفاد الإنسان من الاختراعات التكنولوجية التي شكلت عاملا رئيسيا في تطور البشرية، أبدع في ذلك دون قلق كبير بشأن العواقب. لكن اليوم، ومع التقدم الهائل في العالم الرقمي، بدأ الجدل يتصاعد حول المخاطر المحتملة لهذا التطور السريع. يبرز تساؤل محوري في هذا السياق: هل من الممكن أن تصبح التكنولوجيا قوة مدمرة لمخترعها؟ وهو التساؤل ذاته يطرحه الفيلسوف نيك بوستروم، محذرا من أن هذا الاستمرار غير المنضبط في البحث العلمي والتكنولوجي هو نقطة سوداء أو كرة سوداء بلغته، حيث يقول: " ماذا لو كانت هناك كرة سوداء في الجرة؟ إذا استمر البحث العلمي والتكنولوجي، فسوف نصل إليها في النهاية ونخرجها"[2].
يشير بوستروم إلى احتمالية نشوء تقنية خطيرة قد تكون خارج سيطرة الإنسان تماما؛
وبالتالي نحن أمام مستقبل قد تتحكم فيه الآلة. أيضا يحذر الفيلسوف نيك بوستروم من
أن بعض التقنيات المتطورة، مثل الأسلحة النووية، إذا أصبحت في متناول الجميع أو حتى
بعض الجهات، فقد تؤدي إلى دمار شامل. هذه الفكرة دفعته إلى صياغة فرضية ’العالم المعرض للخطر‘، حيث
يقول: "وبالتالي، ضع في اعتبارك سيناريو’ الأسلحة النووية السهلة للغاية‘،
حيث يمكن لأي شخص نصف ذكي أن يصنع سلاحا حراريا نوويا بسهولة في حوض المطبخ في
فترة ما بعد الظهيرة هذا سوف يعد بالتأكيد خطورة حضارية "[3].
يرى نيك بوستروم أن الاحتباس الحراري العالمي يعرض العالم للخطر، لأن ثاني أوكسيد الكربون أصبح مضاعف في الغلاف الجوي، مما يزيد من مخاطر التغير المناخي. ومع ذلك، لا يقتصر القلق على المناخ فحسب، بل يمتد إلى التكنولوجيات الحديثة، التي قد تؤدي إلى كوارث عالمية إذا لم يتم ضبطها بشكل فعال. للحماية من هذه التهديدات يضع نيك بوستروم بعض طرق الحماية، من أجل تفادي تعرض العالم للخطر بسبب التكنولوجيا، أبرزها:
ضرورة إنشاء شرطة وقائية فعالة لمراقبة خطر الذكاء الاصطناعي المحتمل، وأيضا لا بد من إقامة حوكمة عالمية قادرة على تنظيم الابتكارات العلمية والتكنولوجية. فرض قيود صارمة على الأبحاث التي قد تؤدي إلى تهديد البشرية. حيث يقول: " وفي حين أن الانحدار المستهدف قد لا يكون في البرامج، يمكننا أن نهدف إلى إبطاء معدل التقدم نحو التقنيات التي تزيد من المخاطر بالنسبة إلى معدل التقدم في تقنيات الحماية"[4].
في الماضي، كان الهدف
من الذكاء الاصطناعي مجرد معالجة المعلومات والبيانات عبر أجهزة الكمبيوتر، مع
مرور الوقت، تطور الهدف ليشمل محاكاة الجسد البشري وصناعة الروبوتات، مما أدى إلى
الانتقال من التجريد إلى التجسيد. طبعا محاولة تقليد العقل الإنساني وإنتاج ذكاء
صناعي جد متطور ينتقده الفيلسوف الأمريكي هوبير درايفوس Hubert
Dreyfus حيث اعتبر أن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أبدا
أن يحاكي الذكاء البشري بشكل كلي. في نقده، أشار إلى أهمية الحدس والتجربة
البشرية، وهما عنصران لا يمتلكهما الذكاء الاصطناعي.
يرى درايفوس أنه من
غير المنطقي تشبيه العقل الإنساني بالحاسوب، لأن العقل ليس آلة باردة وجامدة، بل
يفهم العالم بالخبرة الحسية؛ كما أكد الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الإنجليزي
جون لوك بأن العقل البشري "صفحة بيضاء" يكتسب
معارفه ومعلوماته عن طريق التجربة الحسية. يرى درايفوس أن الوجود البشري قائم على
التفاعل بين ما هو اجتماعي وثقافي لأنه تجربة معيشة من الصعب محاكاته بواسطة
الذكاء الاصطناعي. "ذلك أن الحاسوب لا يفهم في الحقيقة: فهو يتعرف على
العلامات ثم يعالجها وفق البرنامج الذي يتوفر عليه، بينما يقتضي الأمر عند الإنسان
الاستعانة بالحدس والحس السليم"[5].
يسعى الإنسان بشكل
مستمر إلى بدل جهده من أجل تطوير الذكاء الصناعي ليصل إلى مستوى قد يتفوق فيه على
الذكاء البشري، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن النجاح في ذلك؟ نظرا لأن
الإنسان كائن معقد ومركب، من الصعب تصور أن الذكاء الاصطناعي سيصل إلى درجة محاكاة
جميع جوانب العقل البشري. " شكل الذكاء الصناعي القوي محركا أساسيا للعديد من
الدراسات التي استهدفت برمجة مجمل الوظائف التي يؤديها الإنسان بشكل ذكي. ذهب
المدافعون عن الذكاء الصناعي القوي إلى التسليم بأن العقول ليست سوى برامج حاسوبية
مزروعة في الأمخاخ. فعمل المخ يماثل عمل الحاسوب؛ فالمخ ليس سوى حاسوب، والعقل هو
مجرد برنامج. فإذا كان المخ يقابل المكونات الصلبة في الحاسوب، فإن العقل يقابل
المكونات المرنة"[6].
مع مرور الزمن، يتضح
أن مجموعة من الخصائص البشرية التي كانت تعتبر مميزات إنسانية محضة، لم تعد حكرا على
الإنسان فقط. الآلات، على سبيل المثال، أصبحت قادرة على أداء العديد من الوظائف
التي كان الإنسان يتفوق فيها. ولكن، رغم ذلك، تبقى الآلة كائنا ميتا لا يفكر، فالآلة
لا تعرف معنى الإحساس بالخوف أو السعادة، لأنها لا تحس، ولا تفكر، ولا تعي، ولا
تحزن. إن الإنسان ليس مجرد جهاز أو آلة، بل هو جسد وعقل معقد، يجمع بين الحدس،
التجربة، والمشاعر. لهذا السبب، لا يمكن الاعتماد الكلي على الذكاء الاصطناعي، لأن
ذكاءه لا يضاهي الذكاء الطبيعي للإنسان. وبالتالي لا خوف على الإنسان من تفوق
الآلة عليه، كما أن المخ البشري، بنية معقدة تتجاوز بكثير في وظائفها مجرد
العمليات الحسابية التي يقوم بها الحاسوب.
هل نعيش في عصر الثورة المعلوماتية الرابعة؟
مع التطور الهائل في التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات، يواجه العالم تحديات غير مسبوقة تثير أسئلة عميقة حول مستقبل البشرية. فقد أدى الانفجار العالمي للمعلومات إلى تغيير جذري في طبيعة الإنسان، فقد أصبحت للإنسان سمة أخرى نصفه بها وهي أنه "كائن معلوماتي"، يعيش في بيئة رقمية تتشكل باستمرار. يرى الفيلسوف الإيطالي المعاصر لوتشيانو فلوريدي Luciano Floridi أن هذا التحول يمثل ’الثورة الرابعة‘، بعد ثورة كوبرنيكوس، التي غيرت نظرتنا للكون، وثورة داروين، التي أعادت تعريف موقع الإنسان في الطبيعة، وثورة فرويد، التي كشفت أعماق النفس البشرية. واليوم، نجد أنفسنا في قلب ثورة المعلومات التي باتت القوة المحركة للعالم.
يقول لوتشيانو: " لا تزال تكنولوجيات المعلومات والاتصال تغير
العالم بعمق وعلى نحو لا سبيل إلى الرجوع عنه لأكثر من نصف قرن من الزمان وحتى
الآن، على نطاق هائل وبمعدل فائق السرعة؛ فهي من ناحية أدت إلى ظهور فرص حقيقية
ووشيكة ذات فوائد عظمى على التعليم، والرفاهية، والازدهار، والتهذيب، فضلا عن
المميزات الاقتصادية والعلمية الكبرى"[7].
بات الإنسان المعاصر محاطا بفيض هائل من المعلومات في حياته اليومية، سواء عبر
الراديو، التلفزيون، الكتب، أو شبكة الأنترنيت؛ هذا التدفق المعلوماتي أدى إلى تخمة
معلوماتية. يقول لوتشيانو:" بمجرد أن نتحول من عملية التسوق عبر واجهات
المحال إلى عملية تسوق عبر نظام تشغيل الويندوز، لا نسير في الطريق بل نتصفح
الشبكة، يبدأ شعورنا بالهوية الشخصية في التآكل أيضا"[8].
يعتبر الفيلسوف
الإيطالي لوتشيانو فلوريدي أن فرادة الإنسان بدأت تتغير في عصر المعلومات الرقمية.
ففي العالم الرقمي، أصبح الإنسان كائنا مجهولا يصادف مليارات من الكائنات
المعلوماتية الأخرى عبر الأنترنيت. رغم حرص البعض الآخر على الكشف عن معلوماتهم الشخصية
من أجل إبراز تفردهم على منصات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك أو تويتر، محاولين
بذلك تمييز أنفسهم وسط الفضاء الرقمي المزدحم.
أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
الإنسان في عصر الذكاء
الاصطناعي، يمكنه ان يحقق السعادة، ولكن قبل ذلك، عليه ترويض الذكاء الاصطناعي
وتسخيره لخدمته وليس لتدميره. يجب أن يُبنى الذكاء الاصطناعي على أسس أخلاقية تساهم
في نشر قيم العدالة والمساواة والحرية، بدلا من أن يؤدي إلى المزيد من اللامساواة
والظلم والعنف. وبالتالي تشكيل مجتمعات أكثر إنسانية حيث التعاون والعيش المشترك، مع
القضاء على التمييز والعنصرية، ونشر خطاب السلام بدلا من الكراهية. من المهم أيضا
أن يسهم الذكاء الاصطناعي في تنمية الاقتصاد بطرق عادلة، دون أن يتحول إلى أداة
تزيد من الفجوات بين الطبقات الاجتماعية، أو تعرض حياة الناس للخطر. على سبيل
المثال، يعاني الإنسان إذا فقد وظيفته بسبب الروبوتات، أيضا إحساسه بأن وجوده من
الأساس مهدد بفعل صناعة الأسلحة الفتاكة المتطورة، التي قد تهدد السلام والأمن
العالمي.
أيضا ينبغي أن تتطور القوانين هي الأخرى من أجل مواكبة هذا التطور التكنولوجي، ومنع ابتكار أسلحة مدمرة وأكثر رعبا من الأسلحة النووية. لأن الأسلحة التي تكون ذاتية القيادة جريمة في حق الإنسانية، حيث تضع الحياة البشرية في أيدي أنظمة معزولة عن القيم الإنسانية. يقول تيجمارك ماكس في هذا السياق ما يلي: " أما الطائرات المصممة بهدف التطهير العرقي، فمن السهل برمجتها لقتل أي شخص اعتمادا على لون بشرته أو عرقه، وكلما كانت تلك الأجهزة أكثر ذكاء، قل عدد الذخائر والقدرات العسكرية والأموال اللازمة لقتل أي إنسان"[9].
يضيف
أيضا: " من المحتمل أن تكون تكلفة الطائرات الصغيرة المقاتلة دون طيار، التي
تعمل عن طريق الذكاء الاصطناعي، مثل تكلفة الهاتف الذكي، ولن يحتاج الناس سوى
تحميل صور أهدافهم وإرسالها إلى الطائرة المقاتلة المبرمجة ستطير فورا إلى وجهتها
وتحدد الشخص المستهدف وتقضي عليه، ثم تفجر نفسها لضمان عدم توصل أي شخص هوية
المسؤولين عن الهجوم أو الجريمة"[10]. وبالتالي
ينبغي صنع ما هو نافع لا ضار للإنسان وأن يكون التطور على مستوى الذكاء الاصطناعي
مبني على أسس إنسانية.
من الضروري أن يتم
تطوير الذكاء الاصطناعي وفقا لمجموعة من المبادئ والقيم التي تضمن أنه يستخدم بطريقة
آمنة، مسؤولة، وعادلة. وأن يكون تأثيره إيجابي على الحياة الإنسانية، وليس العكس، علاوة
على ذلك، من المهم صياغة قوانين وقواعد واضحة من أجل المحاسبة وتحديد من المسؤول في
حال وقوع أخطاء ناتجة عن الذكاء الاصطناعي. لأنه سيكون هناك مشكل تحديد المسؤولية:
هل يتحمل المطور المسؤولية؟ أم الشركة المالكة؟ أم المستخدم نفسه؟ وهكذا ولا يخفى
علينا أن الذكاء الاصطناعي سيكون سببا في اختفاء عدة وظائف يقوم بها الإنسان،
وبالتالي لا بد من توفير فرص عمل جديدة وتعزيز الضمانات الاجتماعية لحماية الفئات
الأكثر تأثرا من هذا التطور التكنولوجي.
من بين أخلاقيات الذكاء
الاصطناعي التي يجب أن يتحلى بها، تبرز حماية الخصوصية كأحد المبادئ الأساسية. في عصر
المعلومات، حيث تتزايد البيانات الشخصية بشكل كبير، يجب على الذكاء الاصطناعي ضمان
أن البيانات التي يجمعها تستخدم بطريقة آمنة ومحمية، مع احترام حقوق الأفراد في
الخصوصية. وهناك مسألة خطيرة وهي استعمال الذكاء الاصطناعي في الجانب العسكري،
وبالتالي هل ستمنح له السلطة لاتخاذ القرارات القتالية؟ وهي قضية خطيرة جدا وتحتاج
إلى مراجعة دقيقة نظرا لتأثيرها الكبير على الأمن البشري العالمي. لذلك من المهم
أن يبقى التحكم البشري ويظل الإنسان هو صاحب القرار في المسائل المصيرية، خاصة
عندما يتعلق الأمر بالحياة البشرية.
الذكاء الاصطناعي ليس خيرا أو شريرا في حد ذاته، بل هو أداة صنعت بيد الإنسان. القدرة على تحسين حياة البشر تعتمد على طريقة تطويره وأيضا استخدامه. وله قدرة رهيبة على تحسين حياة البشر إذا تم استخدامه بمسؤولية، يمكن أن يساعد الأطباء في التشخيص وتحسين الرعاية الطبية، ويلعب دورا مهما في تطوير التعليم، حيث يسهم في تطوير طرق تعليمية مبتكرة ومساعدة في تيسير الوصول إلى المعرفة. في النهاية، يبقى القرار بيد الإنسان، الذي يتحمل مسؤولية تحديد كيفية تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي بما يحقق الخير العام، بعيدا عن الظلم والحروب.
نيك بوستروم، العالم المعرض للخطر، معهد مستقبل الإنسانية، جامعة أكسفورد، ترجمة: دكتور حسين عبد الغني إبراهيم، باحث حر، مصر، ص1. [1]
المرجع السابق، ص3.[2]
المرجع السابق، ص 11.[3]
المرجع السابق، ص 23.[4]
لوتشيانو فلوريدي، مقدمة قصيرة جدا، المعلومات، ترجمة: محمد سعد طنطاوي، مراجعة: علا عبد الفتاح يس، هنداوي، ص22.[7]
المرجع السابق, ص 22.[8]
تيجمارك ماكس، الحياة في طبعتها الثالثة، الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، 2018، ط1 ، ص7.[9]
المرجع السابق، ص 7.[10]