أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 الأكثر قراءة

هل أنصف المستشرقون الفلسفة الإسلامية أم شوهوها؟

هل أنصف المستشرقون الفلسفة الإسلامية أم شوهوها؟
 

 حظيت الفلسفة الإسلامية باهتمام كبير من قِبل المستشرقين، وذلك لعدة دوافع أكاديمية وفكرية متعددة. من أبرز هذه الدوافع الأساسية هو اعتبار التراث الفلسفي الإسلامي امتدادًا للفلسفة اليونانية، مما جعل دراستها ضرورية لفهم تطور الفكر الفلسفي العالمي. مما جعل المستشرقين يركزون على دراسة هذا التراث وتحليله بعمق، ومعرفة تأثير الفلاسفة المسلمين.إضافة إلى ذلك، قام المستشرقون بعقد مقارنات بين أعمال كبار الفلاسفة الإسلاميين مثل ابن سينا و ابن رشد وبين الفلاسفة اليونانيين مثل أفلاطون و أرسطو. وبالتالي سعوا إلى تسليط الضوء على دور الفلسفة في هذا السياق، كان العديد من المستشرقين يرون أن الفلاسفة المسلمين لم يكونوا سوى مترجمين، ناقلين أو شارحين للفلسفة اليونانية، دون إضافة فكرية مستقلة.

 ومن أبرز هؤلاء، أرنست رينان (Ernest Renan)، الذي كان له موقف نقدي تجاه الفلسفة الإسلامية، حيث اعتبرها مجرد تفسير للفكر اليوناني دون تقديم إسهامات فلسفية جديدة. غير أن هذا الرأي تعرّض لانتقادات عديدة، حيث أكدت الدراسات الحديثة أن الفلاسفة المسلمين لم يكتفوا بالنقل، بل ساهموا في تطوير المفاهيم الفلسفية وأسهموا في تشكيل الفكر الأوروبي في العصور الوسطى. يعد أرنست رينان (Ernest Renan) أحد المفكرين الجدليين في القرن التاسع عشر، خاصة بما يتعلق بموافقه من الفلسفة والدين، وخصوصًا الإسلام والمسيحية. بفضل دراسته للغات الشرقية والفلسفة الكلاسيكية، تمكن من تحليل النصوص الدينية والفلسفية بعمق. 

رأى رينان أن الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى كانت مجرد جسر لنقل الأفكار اليونانية إلى أوروبا، حيث اعتبرها تفسيرًا أو إعادة صياغة للفلسفة اليونانية مع بعض التعديلات الطفيفة.في كتابه: "مستقبل العلم". قال رينان: "الفلسفة الإسلامية ليست سوى ترجمة للفلسفة اليونانية مع تعديلات طفيفة، وما أُنجز في بغداد و قرطبة لا يمثل ابتكارًا بل مجرد تفسير وإعادة صياغة". يعكس هذا التصور نقده للفكر الفلسفي الإسلامي ويقلل من إبداع الفلاسفة المسلمين في تقديم أفكار جديدة وفي تطوير الفكر الفلسفي العالمي.إلى جانب ذلك، كان رينان يرى أن الدين الإسلامي لا يشجع على التفكير النقدي الفلسفي، حيث أشار في محاضراته حول "الإسلام والعلم" إلى أن الإسلام بطبيعته معادٍ للفكر الفلسفي. 

هذه الآراء ساهمت في تعزيز تصورات غربية  سلبية حول الفلسفة الإسلامية، معتبرة إياها مقيدة ومحدودة وغير قادرة على الابتكار الفلسفي المستقل.عندما برز فلاسفة مثل ابن سينا و ابن رشد في العصور الوسطى، وجدوا أنفسهم في مواجهة تحديات فكرية فرضتها السلطة الدينية، التي كانت ترفض وتقيد حرية التفكير الفلسفي. في هذا السياق، اعتبر ارنست رينان من خلال مقالته حول الفلسفة الإسلامية، بأن الإسلام يشكل عائقًا أمام العقلانية و الحرية الفكرية. فقد اعتقد أن الفكر الإسلامي لم يكن قادرًا على استيعاب الفكر العقلاني بطريقة حرة ومستقلة، مما أعاق تطوره مقارنة بالفكر الغربي. ما جعله يفقد القدرة على التقدم كما فعل الفكر الغربي. وفي كتابه "ابن رشد والرشدية"، أعرب رينان عن إعجابه بـ ابن رشد واعتبره روحًا نادرة في تاريخ الفكر الإسلامي. لذلك خصص له كتاب خاص به، ورغم إعجابه بقدرات ابن رشد العقلية، إلا أنه رأى أن البيئة الإسلامية لم تكن ملائمة لفكر عقلاني مثل فكره. 

لقد اعتبر رينان أن البيئة الإسلامية في ذلك العصر لم تكن مهيأة لاستقبال أفكار عقلانية متقدمة، مما أدى إلى تراجع تأثيره داحل العالم الإسلامي مقارنة بانتشاره في أوروبا. ومع ذلك، تعرضت آراء رينان للكثير من الانتقادات بسبب تحيزاته الفكرية ونظرته الاستعلائية تجاه الثقافات غير الغربية. وهو ما يعكس التوجهات الفكرية السائدة في القرن التاسع عشر، التي كانت تروج لتفوق الحضارة الغربية على غيرها. هذه الرؤية الاستشراقية أسهمت في نشر صورة سلبية عن الفلسفة الإسلامية داخل الأوساط الأكاديمية الغربية، ما أدى إلى تهميش إسهامات الفلاسفة المسلمين في تاريخ الفكر الفلسفي العالمي. اختلفت نظرة المستشرقين إلى الفلسفة الإسلامية بشكل كبير، حيث كانت تلك النظرة تعكس بشكل واضح الخلفيات الثقافية و الأهداف الأكاديمية والأيديولوجية، بالإضافة إلى الدوافع الاستعمارية التي كانت تسعى لتشويه صورة الفكر الإسلامي والتقليل من قيمته. 

غالباً ما صور المستشرقون الفلسفة الإسلامية على أنها ساحة صراع بين العقل و الإيمان، واعتبروا أن الفلاسفة المسلمين كانوا يسعون للتوفيق بين التعاليم الدينية و الفكر الفلسفي. هذا الفهم جعلهم يعتقدون بأن الفلسفة الإسلامية تفتقر إلى الأصالة وأنها مجرد امتداد أو محاكاة للفلسفة اليونانية، متجاهلين الإسهامات الفكرية العميقة التي قدمها الفلاسفة المسلمون.

على عكس العديد من المستشرقين، كان هنري كوربان (Henry Corbin)، الفيلسوف والمستشرق الفرنسي، صاحب نظرة إيجابية ومختلفة تجاه الفلسفة الإسلامية. اشتهر كوربان بأبحاثه العميقة حول الفلسفة الإسلامية و التصوف، خاصة التصوف الشيعي والإيراني. في كتابه "الإسلام في إيران"، رفض كوربان الفكرة القائلة بأن الفلسفة الإسلامية مجرد امتداد للفكر اليوناني، واعتبرها إبداع روحاني ينبع من التقليد الإشراقي الذي يتجاوز العقلانية البسيطة ويشمل أبعادًا روحية عميقة. حيث قال: إن الفلسفة الإسلامية ليست مجرد تقليد أو محاكاة للفلسفة اليونانية، بل هي إبداع روحاني يترسخ في التقليد الإشراقي الذي يتعدى العقلانية البسيطة ويشمل الأبعاد الروحية" وبالتالي أكد كوربان على أن المزيج الحاصل بين الفكر الفلسفي والتجربة الروحية، منح الفلسفة الإسلامية طابعا متميزا عن الفلسفات الغربية الكلاسيكية.

كما أشار كوربان إلى أن الفلسفة الإسلامية و التصوف لا يقتصران على التفكير العقلاني وحده، بل يشكلان في جوهرهما رحلة روحية عميقة للبحث عن الحقيقة، تتجاوز الحدود التي يضعها ويفرضها الفكر العقلاني المجرد. وأوضح كوربان في أحد تصريحاته:" الفلسفة الإسلامية والتصوف في جوهرهما ليسا مجرد تفكير عقلاني بحت؛ بل هما رحلة بحث عن الحقيقة، رحلة روحية يتعذر على الفكر العقلاني وحده استيعابه"، من خلال هذا التصور، شدد كوربان على العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والتصوف، حيث اعتبر بأن الفلسفة الإسلامية تحمل بعدًا روحانيًا وعرفانيًا عميقًا يتجاوز التحليل العقلي البسيط. وبهذا، خالف الرؤية التقليدية التي حصرت الفلسفة الإسلامية في إطار التفسير العقلاني للفكر اليوناني، مؤكداً على أصالتها وفرادتها كمنظومة فكرية تتداخل فيها الحكمة الروحية مع البحث الفلسفي. 

تعتبر أعمال هنري كوربان من أهم المصادر لفهم الفلسفة الإسلامية، خاصة في سياقها الروحي والعرفاني. حيث ركز في أبحاثه على الأبعاد الروحية والميتافيزيقية التي أغفلها العديد من المستشرقين التقليديين الذين تعاملوا مع الفلسفة الإسلامية من منظور عقلي بحت. قدمت مجموعة من المستشرقين رؤى نقدية متباينة تجاه الفلسفة الإسلامية، حيث رأى بعضهم مثل جولد تسيهر و رينهارت دوزي أن ازدهار الفلسفة الإسلامية كان مرتبطاً بتفاعلها مع الثقافات الأخرى مثل، الفارسية واليونانية. بينما تراجعت هذه الفلسفة بسبب جمود المؤسسات الدينية الإسلامية التي أعاقت تقدم الفكر الفلسفي الحر. 

من بين المستشرقين الذين تبنوا مواقف نقدية أو معادية للفلسفة الإسلامية، يبرز غوستاف لوبون (Gustave Le Bon)، الذي كان عالم اجتماع فرنسي ومؤرخ معروف بنظرياته حول العقل الجماعي و سلوك الجماهير، هذا الأخير ركز على تحليل طبيعة المجتمعات الإسلامية، حيث رأى أن الفكر الفلسفي  فيها لم يستطع الاستمرار في التطور بسبب العوامل الثقافية والدينية التي تعيق التفكير النقدي.غوستاف لوبون كان له موقف خاص من الفلسفة الإسلامية والحضارة العربية، وقد عكست آراؤه في كتابه "حضارة العرب". رغم اعترافه بـ المساهمات العلمية والثقافية الهامة التي قدمتها الحضارة العربية في العصور الوسطى، إلا أن لوبون كان منتقدًا من حيث الافتقار إلى الإبداع الفلسفي.

 في رأيه، كانت الفلسفة الإسلامية مجرد محاكاة للفلسفات الغربية أو اليونانية ولم تتمكن من تقديم إبداع فلسفي أصيل. بينما اعترف بمساهمات العلماء العرب في مجالات مثل الطب و الفلك، إلا أنه اعتبر أن العقل العربي تأثر بشكل أكبر بـالعواطف و العقائد الدينية، مما حد من القدرة على التفكير الفلسفي النقدي. بشكل عام قدم لوبون رؤية مزدوجة تجمع بين الإعجاب والانتقاد. في الوقت نفسه، كان لوبون يرى أن العقلانية الغربية هي التي قادت الحضارة الأوروبية إلى التقدم العلمي والفلسفي، بينما كانت الفلسفة الإسلامية في رأيه مقيدة و محدودة بسبب تأثير الدين على الفكر الفلسفي.

تفاوتت مواقف المستشرقين تجاه الفلسفة الإسلامية، حيث كان هناك من أبرز أهمية الفلسفة الإسلامية ومساهمتها في تطوير الفكر الغربي، بينما كان هناك من قلل من قيمتها. ولكن، ورغم هذا التباين، يمكن القول إن الاستشراق قد لعب دورًا محوريًا في نقل الفلسفة الإسلامية إلى الغرب، خاصة من خلال الترجمة التي قام بها المستشرقون وأعمالهم الأكاديمية التي سلطت الضوء على أعلام الفكر الفلسفي الإسلامي؛ كان لهم اهتمام خاص بـ ابن سينا، الفارابي، و ابن رشد، إلا أن هذا الاهتمام لم يخلو من الرؤية الاستعمارية، حيث كان يتم النظر إلى الفلسفة الإسلامية على أنها جزء من التراث الشرقي الذي يُعتقد أنه يعارض العقلانية  الغربية.

 حيث ساد اعتقاد بين بعض المستشرقين بأن الفكر الغربي أكثر تقدمًا وحداثة، بينما تم تصوير الفلسفة الإسلامية على أنها تراث ماضوي لم يتمكن من مواكبة التطور العقلي الحديث. في الفترات الحديثة، بدأت عملية إعادة تقييم الفلسفة الإسلامية بعيدًا عن الأحكام المسبقة، خاصة مع أعمال هنري كوربان، الذي ركز على الأبعاد الروحية و العرفانية في الفلسفة الإسلامية. ساهمت أبحاثه في تقديم رؤية جديدة للفلسفة الإسلامية، أما العداء  للفلسفة الإسلامية من قبل بعض المستشرقين يعود إلى عدة عوامل تاريخية، فكرية، وثقافية، التي تداخلت فيما بينها لتشكل صورة نقدية مشوهة لهذا الفكر 

ويمكن تلخيص بعض الأسباب الرئيسية لهذا العداء في النقاط التالية: على المستوى السياسيكان الغرب يسعى لفرض هيمنته الثقافية والسياسية على الشرق، وكان الاستشراق أداة استعمارية تُستخدم لخدمة الأهداف الاستعمارية الغربية. لذا كان من الضروري تقديم صورة سلبية عن الفلسفة الإسلامية، تُظهرها على أنها فلسفة راكدة أو تقليدية مقارنة بالفلسفة الغربية الحديثة. هذا التصور كان يساهم في تسويغ الهيمنة الغربية على المنطقة الإسلامية.التطور الغربي: في الغرب، شهدت الفلسفة تطورًا كبيرًا، خاصة في العصور الحديثة، مع ظهور ديكارت و كانط، حيث برزت العقلانية التي ميزت الفكر الغربي. 

في المقابل، اعتُبر الفكر الإسلامي بعيدًا عن العقلانية و العلمانية بسبب ارتباطه بالدين. الاختلافات الثقافية والعقائدية: إن انتقاد المستشرقين للفلسفة الإسلامية كان أيضًا نابعًا من التعصب الثقافي، حيث كانت المدارس الفكرية الغربية تتسم بنظرة دونية تجاه الشرق و المجتمعات الإسلامية. هذا التعصب أسهم في عدم التقدير الكامل لإنجازات الفكر الإسلامي، مما جعل المستشرقين يركزون على التشويه بدلاً من التقدير الصحيح للمساهمة الكبيرة التي قدمها الفلاسفة المسلمون في مجال الفلسفة. 

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا العداء التاريخي، أظهرت العديد من الدراسات الحديثة أن الفلسفة الإسلامية قد قدمت إسهامات فلسفية مبدعة و تأثيرًا كبيرًا على الفكر الغربي خاصة من خلال الفلاسفة المسلمين الذين ابتكروا مفاهيم فلسفية وروحية تميزت عن الفلسفات الأخرى. إنّ إعادة تقييم الاستشراق ودوره في دراسة الفلسفة الإسلامية يفتح الباب أمام فهم أعمق لتفاعل الحضارات وإسهامات الفكر الإسلامي في الفلسفة العالمية. ومع تزايد الاهتمام الأكاديمي بهذا الموضوع، يظل البحث في تأثير الفلاسفة المسلمين على الفكر الغربي ضرورة معرفية لفهم العلاقة الجدلية بين العقلانية والتصوف، وتأثير الفلسفة الإسلامية في تشكيل الفكر الحديث.

 

 

سعيدة مهير
سعيدة مهير